الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

زهور ذابلة ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





زهور ذابلة
قصة محمود البدوى


غادرنا الجيزة تلك المدينة الفقيرة الكئيبة ، وانحرفت بنا السيارة فى طريق طويل على جانبيه الشجر ..

وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وبدت المزارع والجداول ومن ورائها الأهرامات .. أشد شىء أخذًا فى تلك الساعة من النهار ..

وكانت السيارة من سيارات نقل الموتى .. كانت طويلة وأنيقة ومن أحسن طراز .. وكانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام .. القسم الأمامى منها للسائق، والخلفى للميت ، والوسط لأهل الميت ، وفى هذا المكان جلست وحيدًا مكروبا ، وعيناى سابحة فى الأفق ..

وكانت الجلسة فى السيارة مريحة ، ولكن أعصابى كانت متوترة ، وكنت أشعر بضعف جسمانى شديد ، فلقد مرت علىّ أيام ثلاثة لم أذق فيها النوم إلا قليلا ..

كنت أحمل العبء وحدى .. ولقد بذلت كل ما فى وسعى ، وبذل معى الأطباء لننقذ أحمد ، ولكن نفذ القضاء ، وذهبت جهودنا كلها هباء ..

انتهى فى الساعة الرابعة من الصباح ، ولم ينبس بكلمة ، وكنت بعيدًا عنه .. وجئت لزيارته فى الصباح ، ومعى باقة من الورد وزجاجة من العطر ، وكان يحب الورود والرياحين .. ودخلت غرفته على أطراف أصابعى كعادتى .. ولكننى وجدت سريره خاليًا .. فأدركت أن كل شىء قد انتهى ..

وسمعت من يقول :
ـ حدث له نزيف داخلى ..

وهكذا انتهى وهو أشد ما يكون شبابًا وفتوة ، انتهى فى الساعة التى بدأت فيها الحياة تبسم له بعد طول عبوس ، وتتطلع عيناه إلى الحياة السعيدة بعد طول جهاد وعناء وكد .

ولقد أخذ فى أيامه الأخيرة يكثر من الكلام ، على الرغم من طبيعة الصمت التى لازمته وكان يقول لى :

« إن المرء لا يعرف قيمة الحياة إلا إذا رقد على هذا السرير .. إن هذه الرقدة تكرهك على التفكير .. والتفكير فى الأشياء التى لم تكن تخطر لك على بال .. والمرء بعد المرض يزداد صلابة وقوة وعزما ، وتعمق نظرته للحياة ، ويصل به التأمل إلى أعمق أعماقها ، لقد كنت أفزع من وخزة دبوس .. وأنتفض فرقًا من لا شىء .. فلما رأيت هؤلاء المرضى الأبطال الذين يتعذبون فى صبر وصمت ، أدركت نعمة الصبر التى تنزل على الإنسان فى محنته .. وأخذت أخجل من نفسى عندما كنت أتألم من لا شىء كطفل صغير .. والألم يصهر النفس ويخلصها من الأدران ، وأنت لا تعرف نعمة النفس المطمئنة إلا إذا رقدت هذه الرقدة .. هنا تصفو نفسك من الشهوات وتدرك أن كل شىء باطل .. كل شىء زائل .. نفس يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء .. إنه حقًّا شىء مروع ، ولكن لا بد أن ينتهى بنا المصير إلى هذا ...... » .

وتحولت بعد هذه الخواطر إلى المروج المحيطة بنا ، وكانت السيارة تخطف خطفًا .. والغسق يزحف والنهار يولى ..

ما أعجب الحياة .. وما أعجب الموت .. نفس واحد يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء ... هكذا ... أخذت أدير كلام صاحبى فى رأسى وأذكر الصور التى مرت علىَّ فى المستشفى ..

كان هناك رجل فى الغرفة المجاورة لغرفته .. وكنت أرى هذا الرجل كلما ذهبت لزيارة أحمد ، وفى أصيل يوم كان باب غرفته مفتوحًا ، وكان الرجل راقدًا فى سريره ، وعلى رأسه ابنته .. وكان يتحدث إليها بصوت عال ، وهو مفتر الثغر طروب .. وبعد دقائق قليلة سمعت حركة فى غرفته ، ودخل الطبيب وبعده الممرضة ، وخرجت الممرضة وفى يدها حقنة فارغة .. ! وبعد لحظات عاد السكون إلى الغرفة .. وانتهى ميعاد الزيارة .. وفى طريقى إلى الخارج سمعت الفتاة تبكى .. وتلفت .. وتقدمت نحو غرفة الرجل .. فوجدته على حاله كما رأيته من قبل ولكنه لم يكن يتنفس..!

وكانت السيارة تتمهل قليلا ، وهى تجتاز بعض القرى .. وكان القرويون يتطلعون إلى السيارة ، فإذا أدركوا أنها من سيارات نقل الموتى ، ذكروا الله وترحموا على الميت .. ولقد رأيت فى هذه الوجوه من العواطف الإنسانية ما جعلنى أنسى كل ما لقيته فى المستشفى من عناء ونصب .

إن العاملين فى هذه المستشفيات قد تجردوا ، كما خيل إلىَّ ، من كل عاطفة بشرية .. يستوى فى ذلك الطبيب المتعلم والممرض الجاهل .. والسرير عندهم أغلى من الراقد عليه ، وهم ينقلون الميت من سريره إلى غرفة الموتى ، ويتنفسون الصعداء ، وكأنهم يرمون بكلب أجرب إلى الطريق ..

إنها الحياة فى تلك المستشفيات ، الحياة التى لا تعرف الرحمة ، الحياة التى تسحق الضعيف والفقير سحقا ..

***

وقفنا عند مقهى صغير فى الطريق ، ونزل السائق ليشرب الشاى .. فهو وإن كان فى شرخ شبابه وريعان صباه ؛ ولكنه سيسهر طول الليل .. وسيقود السيارة فى تلك الظلمة الشديدة اثنتى عشرة ساعة وقد تزيد ..

وعاد إلى السيارة وقد عصب رأسه واستعد لليل .. وكان هادئًا قوى الأعصاب قليل الكلام .. ولعله تعود ذلك بحكم عمله .. وكان ينهب الأرض نهبا وكأنما يسير بالسيارة على بساط معلوم .. وقد استرحت إلى صوت السيارة وحسها فى الطريق ..

وأرسلت عينى إلى الليل الساكن ، وإلى الريف الحزين ، وكنت شبه نائم ، واسترحت إلى هذا السكون ، وإلى نسيم الليل ، وإلى الوحشة الشديدة .. فما اعترضتنا سيارة ، ولا رأينا ظل شبح فى الطريق..

كان الطريق مقفرًا ، والليل رهيبًا موحشا ، وكل شىء يبعث على السكون ، إنها سيارة الموتى وكل شىء ميت فى الطريق ..

وكنت أستفيق من ذهولى على صوت جندى المرور فى النقط ، وما أكثر هذه النقط فى الطريق .. كان يعترض السيارة وبيده فانوسه الأحمر :
ـ كل شىء تمام يا أسطى .. ؟
ـ كل شىء تمام يا أفندم ..!
وتحركت السيارة ..

***

وأغمضت عينى .. وكنت أود لو أنام كما ينام قريبى فى الجزء الخلفى من العربة ..

ولعلى غفوت .. فقد تنبهت على حركة السيارة وهى تقف عند نقطة من نقط المرور .. وكان هذا الجندى فارعا ، أسود كالليل .. ودار حول العربة ، ورفع مصباحه فى وجه السائق ، وطلب التصريح .. ثم قرأه .. وطواه ورده إليه .. ودار حول العربة مرة أخرى .. ! وفتح الطريق فى تثاقل ..

وتحركت السيارة ، وسمع السائق من يهتف به فلم يتوقف ، فأشرت عليه بالوقوف .. فوقف .. وسمعنا من يقول :
ـ من فضلك خذ هذه الست معك إلى سمالوط ..

وكان رجلا من الفلاحين .. وخلفه امرأة على رأسها متاعها .. ولم يرد عليه السائق وظل صامتا .. ولما اقترب الرجل من العربة ، وأدرك أنها من عربات الموتى .. أظهر أسفه وهم بالانصراف ..
فقلت للسائق :
ـ خذها بجوارك ..
وركبت المرأة .. وانطلقت بنا السيارة ..

***

وكانت المرأة جالسة فى الركن الأيمن من المقعد .. أمامى .. وكانت صامتة ، ولم أستطع أن أتبين من جلستها سوى أنها طويلة القامة .. وكانت طرحتها السوداء تغطى رأسها وعنقها ومنكبيها .. وكان النور فى المقعد كابيا.. وجلستها معتدلة ، فلم أستطع أن أقرأ صفحة وجهها ..

وكان السائق قبل أن تجى المرأة قليل التدخين .. فلما ركبت بجواره أشعل سجائر كثيرة .. وبدت على يديه دلائل التوتر .. وابتدأ يتكلم ..! ورأيته ينظر إليها نظرة جانبية سريعة ثم عاد إلى الطريق .. واجتزنا قنطرة ، ثم مررنا على جسر من الجسور فسار عليه مسرعًا ، وأدركنا بعد مسير أكثر من عشرة أميال أننا ضللنا الطريق ، فارتد وعلى وجهه دلائل الغضب .. ولما بلغنا قرية من القرى توقف ، وأمر المرأة بالنزول ..
فسألته :
ـ لماذا .. ؟
ـ أنا سائق لعربة الموتى يا سيدى ولا أحب أن تجلس نساء بجوارى .. !
ـ ولكن أين تذهب هذه المسكينة فى هذا الليل .. ؟ .
ـ وراءنا سيارات كثيرة .. . وهذه ليست عربة للركاب ..

قلت له أخيرًا :
ـ دعها تركب بجوارى ..

ففتح لها باب المقعد من الناحية اليسرى .. وصعدت المرأة وهى صامتة وتحركت السيارة ..

***

وجلست المسكينة منزوية فى العربة ، وقد غطت وجهها كله ، واتجهت إلى النافذة المفتوحة .. وبدا لى أن أرفه عن نفسها لما نالها من كلام السائق ..
فسألتها :
ـ أنت من سمالوط .. ؟
ـ لا .. يا سيدى .. أنا رايحة لأختى عند نخلة أفندى ..

قالت هذا فى صوت ناعم ، وفى سذاجة أزاحت الهم عن صدرى .. وجعلتنى آنس بها ، وأكثر من الحديث معها ..
وأدركت وأنا أتحدث مع هذه المرأة ، لماذا يجتمع الناس فى الجنازة ويعزون أهل الميت .. ؟ فقد تحملت ثقل الحزن وحدى ، ولم أجد فى المستشفى صديقا ولا رفيقا بل حانوتية فى كل مكان .. يساوموننى على نقل قريبى كأننى سأشحن بضاعة إلى السوق ..

ولما سألتنى عن أحمد وعرفت أننى أحمله إلى أبيه وأخته ، وهى فى مثل سنها اخضلت عيناها بالدمع .. فأغرورقت عيناى .. ووددت لو أمسح بيدى على ذراع هذه المرأة وألمس خديها .. ثم أدفن صدرى فى صدرها وأبكى ..

وتراجعت إلى الخلف ، ورأيت وجهها لأول مرة ، وهى تنظر إلىَّ فى سكون وحزن .. كانت جميلة وصغيرة .. وقد بدا يعصرها الفقر .. حزن بارز على الشفة ، وجوع واضح على الخدين ، ووجه لوحته الشمس فى الحقل أو فى الطريق .. لم أكن أدرى ..

كانت تنظر إلىّ بعينين ذابلتين .. وتحاول أن تصل بهما إلى أطواء نفسى ، ولكننى وجدت نفسى مرة أخرى أغيب عنها ، وأرسل البصر إلى الليل ..

وأخذت أرقب النجوم وأفكر .. إننى الآن فى عربة .. وبجوارى فتاة ريفية فى مثل جمال الفجر .. وهى تنظر إلىّ ، وقد يكون فى نظرتها اشتهاء .. ولكننى بعيد عنها ، وإن كنت أقرب شىء إليها .. بعيد عنها بجسمى ونفسى أفكر فى الموت .. وما بعد الموت .. والزهور الذابلة فى الحديقة .. والأوراق التى تتساقط من الشجر .. وأحمد الذى بينى وبينه نافذة زجاجية صغيرة .. فإذا فتحتها ، ربما طالعتنى رائحة كريهة ، عفن الموتى .. ما أعجب الحياة .. الشاب الذى كنت أحادثه بالأمس ، قد غدا اليوم جيفة .. !

ونظرت إلى متاعه الذى وضعناه بجواره .. ووددت لو أقهقه ، وأجلجل بصوتى ، وأقطع هذا السكون العميق ، وفى هذا التيه من الخواطر المحزنة تنبهت على حركة شديدة فى محرك العربة .. وخفت سرعة العربة .. ثم وقف المحرك ..

***

ونزل السائق ، ودار حول مقدمة العربة .. ثم انحنى ورفع الغطاء .. وأخذ يعالج تلك الآلة الدقيقة .. وبعد دقائق قليلة كان عرقه يسيل ، وظهر على وجهه اليأس ..

وأخذت الهواجس تدور فى رأسى .. ماذا يحدث .. لو تقطعت بنا السبل ، وبقينا فى هذا المكان إلى الصباح .. وكان السائق ينظر إلى الطريق يمينا وشمالا وهو حائر ..

ورأينا نور سيارة من بعيد .. واقتربت وكانت من السيارات الكبيرة المتجهة إلى القاهرة .. ولوح لها السائق بيده فتوقفت ونزل سائقها .. ونظر فى محرك العربة ، وأدرك العلة .. وركب معه سائقنا إلى مغاغة ليجىء بمن يصلح السيارة .. وبقيت وحيدًا مع المرأة فى هذا الليل ..

***

بقينا صامتين مدة طويلة .. وكنت مضجعنا ، ومرسلا بصرى إلى سقف العربة .. وكانت هى مائلة إلى النافذة ، ومطلة برأسها على الطريق .. لم تكن تتحرك .. حتى يخيل للناظر إليها أنها نائمة .. ما أشد سكون هؤلاء القرويات وما أحلى وداعتهن .. أى سر فى الحياة ..

بعد أن بارحنا السائق بلحظات ، ووجدت نفسى وحيدًا مع هذه المرأة .. سرت فى جسمى رعشة .. ووجدت الدم يتدفق فى عروقى من جديد .. ونسيت المرض والحزن .. والموت .. هل كنت أتمنى هذه اللحظة ، وأنا فى غمرة هذه التعاسة المرة ، وهذا التعب الجسمانى البالغ .. ؟ ربما .. فقد شعرت بعد أن تركنا السائق أن حملا قد انزاح عن صدرى . وأن الفاصل الذى كان يحجب عنى هذه المرأة قد أزيل .. ونسيت الموت .. وصاحبى الراقد خلفنا فى العربة .. نسيت كل شىء يتصل بهذا ، واتجهت بكليتى إلى هذه المرأة ، وكانت قد رفعت رأسها وواجهتنى ..

ونظرت إلىّ .. وعاودتنى الرعشة من جديد .. وابتدأ العرق ينضح على جبينى .. واقتربت منى وقالت فى صوت خافت ..
ـ أخائف .. أنت .. ؟

فقلت لها بصوت يرتعش :
ـ أبدا ..

ومددت يدى دون وعى ، كانت يدى تزحف فى الظلام كالعنكبوت ..
ـ يدك ساخنة .. !

ولم أقل لها شيئًا .. وتركت يدى فى يدها .. وأغمضت عينى ..
ـ مالك انت محموم ..؟
أنا محموم ..! كان العرق يسيل من جسمى كله .. وكنت أرتعش .

ومرت يدها على يدى وذراعى .. ووجدت يدى تمسح على ذراعها .. وشعرت بنعومة بشرتها تحت ملمس أصابعى .. وأحسست بجسمى يتخدر .. وسكنت الرعشة وجف العرق .. وانحدرت يدى عن ذراعها .. وكأنى كنت فى غيبوبة ورجعت إلى نفسى ، وبحركة لا شعورية .. مددت رأسى ونظرت من النافذة .. إلى صاحبى .. وكان فى نعشه وعليه الغطاء الحريرى .. هل تصورته تحرك ، ونظر إلينا ..

ووضعت يدى على جبينى ، وملت إلى النافذة ، وابتعدت عن هذه المرأة ..

وبعد قليل عدت أفكر فيها من جديد وكانت قد وضعت رأسها على كفها ، ومالت إلى الوراء ، وأغمضت عينيها .. إنها تحاول النوم ، أو تحاول الإغراء ..

هل تحاول هذه القروية معرفة ما يدور فى رأسى .. إننى محطم الأعصاب من طول ما لا قيته من عناء فى الأيام الماضية ، وكنت أود رفيقا أو أنيسا فى الطريق ، وقد وجدت هذه المرأة .. وجدتها رفيقى وأنيسى عندما كانت السيارة تسير ونورها يخطف البصر فى الطريق .. ولكن بعد أن توقفت السيارة، وأطفئت الأنوار .. انقلبت عنصر شر لى .. وزادتنى عذابا وألما .. فجلست بجوارها قلقا مهتاج الأعصاب ، لا أستقر على حال وأخذت أهز ساقى وأحاول أن أصرف ذهنى عنها ، ولكن هيهات ..

كانت روحى قد تخدرت وتقمصنى الشيطان .. وبدا لى أن خير ما أفعله هو أن أتحرك ، ففتحت باب السيارة .. فأحست بى ..

وسألتنى فى جزع :
ـ إلى أين ..؟
ـ سأتمشى قليلا ..
ـ لا تبتعد ..
ـ أتخافين .. ؟
ـ أنا .. أبدًا .. وإنما أخاف عليك من الذئاب ..؟

ونزلت وكانت تنظر إلىَّ بجانب عينها وتبتسم فى خبث ظاهر ..!
ـ الذئاب ..!
وضحكت ..

لقد أفلت من يدها .. وشعرت بعد خطوات قليلة بالراحة التامة وفعل نسيم الليل فى الصيف ، والهواء الطلق فعل السحر فى جسمى ونفسى ..

***

وعاد السائق وأصلحت السيارة ونزلت المرأة فى سمالوط .. وتنفسنا الصعداء وانطلقت بعدها السيارة بأقصى سرعتها ليعوض السائق ما فاته .. وبلغنا منفلوط قبل أن يتنفس الصبح ..

***

ووقفت بنا السيارة أمام منزل الميت .. وصعدت ومعى الحقيبة التى فيها متاعه ، واستقبلتنى أخته فى نهاية الدرج ، وكانت فى لباس أسود ، ولكنها لم تكن تولول أو تصيح ..

كان حزنها دفينا صادقا .. شددت على يدها وتهالكت على أريكة قريبة ، وأدرت عينى فى المكان باحثا عن أبيها ..

وعرفت نظرتى وقالت بصوت مفجوع :
ـ إنه نائم .. جاءته برقيتك وهو فى فراشه ومن وقتها لم يتحرك .. وقد أخبرت الشيخ عبد الحفيظ .. وأعد كل شىء ..

ولم أعجب لذلك فقد كنت أعرف عنه الكثير .. ورفعت عينى إلى أمينة التى عاش من أجلها أحمد ، ولأجلها ضحى بكل شىء ، لأنه كان يعرف أن والده ميت حى .. لقد غدت امرأة .. الفتاة التى كانت تصنع لنا القهوة فى ليالى الامتحان قد اكتملت أنوثتها . وجمعت كل مفاتنها ولقد زادها الثوب الأسود جمالا ..

ونظرت إليها وقلت بصوت حزين :
ـ أيقظيه فالوقت متأخر ، والسائق يجب أن يعود بالسيارة قبل ..

ولما سمعت كلمة السيارة أجهشت بالبكاء .. وكان فى ناحية من البيت بعض النسوة فتركتها لهن ، ودخلت على أبيها فى فراشه ، وكان نائما على سرير من الحديد .. وتحته لحاف قذر كله حروق حمراء مستديرة .. وكان بجواره منضدة صغيرة عليها بقايا تبغ محترق .. وآثار قهوة فى فنجان .. ثم زجاجة فارغة من الخمر .. وكأس مقلوبة .. وآثار خمر على الأرض .. وفى الفراش .. وكان منظر الحجرة كريهًا ..

هذه هى حجرة مصطفى أفندى وهو فى فراشه .. كل شىء يبعث على الاشمئزاز .. حجرة سكير .. غارق فى الخمر إلى الأذقان .. ووقع نظرى على الدوائر الحمراء فى اللحاف .. وهو نائم عليه دون حس أو حركة .. إنه يدخن وهو مضطجع .. ويغلبه النعاس فتسقط يده بالسيجارة على الفراش ..

ووضعت يدى على عاتقه وهززته بقوة فتحرك بعد لأى .. وقام كأنه يجر إلى المشنقة .. متثاقلا متخاذلا.. واعتمد على ذراعى ، ونزلنا إلى الشارع ولما رأى السيارة انتفض .. ودب فى جسمه نشاط عجيب ، وأخذ يولول وينوح..! وجمع علينا القرية بكل من فيها من رجال ونساء ..!

***

وعدت من المقبرة إلى المنزل وقد بلغ منى الجهد .. ونمت نوما متقطعا وحلمت أحلاما مزعجة .. وكنت كمن أصيب بالحمى .. فذهل عن كل شىء وأخذ يهذى .. ويطلب الماء فى كل دقيقة ، وفى جوفه أتون مستعر .. وأتت إلىّ أمينة بمنديل سقته بالخل وعصبت به رأسى .. فقد أصبت بضربة شمس ..

وفتحت عينى فإذا الليل قد أرخى سدوله على القرية .. وكان العرق قد تفصد من جسمى كثيرًا فشعرت بعده بالارتياح والانتعاش والعافية ..

ورحت أسترجع كل ما مر علىّ فى الأيام القليلة الماضية .. ثم تحركت من فراشى ، ونظرت من النافذة إلى الحقول وكان السكون يخيم ، والقرية ساكنة ، وسمعت حسا وحركة .. فأصغيت ..

سمعت صوت أمينة كانت تتحدث فى صوت خافت يشبه الهمس ، ثم ارتفع صوتها ، ووضح صوت أبيها واشتد بينهما الكلام والعراك ، وسمعتها تنتحب ، فجريت نحوهما فوجدت والدها واقفا على سلم البيت وبيده شىء ، والفتاة تشده منه بقوة وهو يجاذبها فيه بعنف ، ويصيح مهددًا ..

وكان أحمر العينين أغبر السحنة ، ولما بصر بى صمت فجأة وترك ما فى يده ، ووقع بصرى على ما كان فى يده ، إنها بذلة أحمد التى حملتها معى من المستشفى .. !!

وضمتها أمينة إلى صدرها وأخذت تنشج .. ووقف هو مشدودًا إلى الأرض فاغرًا فاه ، وهو لا تكاد عينه تطرف ، ونظرت إليه فى قوة ، إنها بذلة أحمد وهو ذاهب بها إلى السوق ليبيعها ، ويشترى بثمنها زجاجة من الخمر ..

نظرت إلى هذا الرجل الذى يقف الآن ذليلا أمام شاب فى سن ابنه ، لأنه يدرك شناعة فعلته ، ولكنه لا يستطيع أن يملك من أمر نفسه شيئًا .. لم تعد له إرادة على الإطلاق ، إنه الضعف البشرى ، إنها الإنسانية المعذبة .. نظرت إليه فى وقفته الذليلة هذه .. وتذكرت فى الحال أبطال دستويفسكى العظيم ..

وكنت أود لو أمسك بيد أمينة وأقول لها .. اركعى معى أمام والدك المسكين .. السكير .. كما فعل رازكو لينكوف أمام امرأة سقطت .. وقبلى الإنسانية المعذبة فى شخصه .. إن والدك ليس فظا ولا حقيرًا ولا جشعًا كما تتصورين ولكنه لا يملك من أمر نفسه شيئًا ..

***

انسحب مصطفى أفندى من أمامنا ، وأخذت أحادث أمينة حتى كفت عن البكاء ..

واستيقظت فى الصبح على صوت أمينة وهى تبكى .. وعلمت أنه غافلها وأخذ البذلة .. وعاد ومعه زجاجتان من الخمر .!

ودخلت عليه حجرته فإذا به مستغرق فى نوم عميق كما شاهدته أول مرة ، وفى اللحاف آثار حروق جديدة .. ! ورائحة الخمر تنبعث من كل مكان فى الغرفة .. !

***

وبعد ساعة كنت أركب سيارة صغيرة إلى المحطة ، لنأخذ القطار السريع إلى القاهرة .. وكانت بجوارى أمينة .. كانت صامتة ، ولا تزال فى ثوبها الأسود .. وفى عينيها بقية من دمع ، ولكن وجهها كان يشرق ويغمر نفسى نورًا ..

=================================
نشرت القصة فى مجلة كليوباترا 16/9/1946 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص " العربة الأخيرة " لمحمود البدوى عام 1948 وبمجموعة " قصص من الصعيد " فى سنة 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالفجالة
================================

ليست هناك تعليقات: