الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

المجداف ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





المجداف
قصة محمود البدوى


ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..

وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .

ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .

ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى " المندرة " قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .

قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .

وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .

وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..

وسألت الملاح :
ـ إلى أين .. ياعم ..؟
ـ رايح .. الخزان
ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..

ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .

ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..

وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..

ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..

ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..

ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..

وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .

وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .

وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..

وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .

وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..

وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..

وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسـه سيـجارة .. وبعد أن أشعلها .. استراح ..

وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .

وقدرت أن حـاجـا جـديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .

وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..

وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
ـ أساعك .. ياعم ..؟
ـ كتر خيرك .. يا ابنى

وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..

وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
ـ خذنى معك .. يا عم ..
ـ إلى أين ذاهب ..؟
ـ ارمينى تحت الريح ..

وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..

وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..

فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .

فقال له الرجل :
ـ ارجع .. يا عجوز .. أحسن لك ..

واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..

ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..

ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..

ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..

ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..

أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..

ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..

وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..

***

ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .

وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟

انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..

وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..

وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القـاه مـن يده .. كأنه يستخف بنـا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..

وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..

ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..

وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..

وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..

ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..

وقالت الفتاة :
ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..

وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..

وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..

وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..

ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..

وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..

وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..

وقلنا له فى نفس واحد :
ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..

وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..

ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..

وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..

وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..

واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..

وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..

ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..

وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..

واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..

وسألته :
ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟

فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..
=================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 1121 فى 971959 وأعيد نشرها بمجموعة " غرفة على السطح "1960 وبمجموعة " قصص من الصعيد " مكتبة مصر 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================

ليست هناك تعليقات: