الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

الأمواج ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الأمواج
قصة محمود البدوى



كانت المراكب راسية فى ظل الغسق محملة بالغلال والتبن والأكياس .. والبلاليص الفارغة .. فى انتظار فتح الهويس فى الصباح ..

كانت قد القت مرساها فى هذه " الموردة " لتستريح ليلة من عناء السفر .. طوت أشرعتها وخلعت مجاديفها وربطت زوارقهـا عند الدفة وسحبت حبالها وطوتها فى البكر ..

وانطلق ملاحوها إلى القرية يتزودون بالطعام ويشربون الشاى فى القهوة ويشترون السجاير والتمباك والسكر .. وبقى فى كل سفينة شخص لحراستها .. واجتمع هؤلاء على سطح المراكب يشربون الشاى ويتسامرون ..

وكانت الظلمة طاغية .. والفيضان عاليا .. والتيار شديدا .. ولكن الميناء الصغيرة ازدحمت بالمراكب حتى تغطت صفحة الماء .. وتلاقت المراكب الذاهبة إلى القاهرة والقادمة منها ..

وكان من عادة الملاحين فى هذه الميناء أن يستريحوا ليلة بعد عبور الهويس " ويحلو " قبل الفجر .. وينطلقوا إلى المنيا فى نفس واحد !!

***

وكانت معدية " البر " ترسو خلف هذه المراكب تحت ثلاث أشجار من السنط يتجمع تحتها الفلاحون مستظلين من وهج الشمس ولفح الرمضاء ..

ومن منتصف أغسطس تصبح الشجرات الثلاث تحت رحمة الأقدار .. ولا يبقى منها إلا رؤوسها تصارع الموج .. ويرسب كل ما حولها فى القاع ..

ولكن " صابر " رغم أهوال النيل كان يعدى وينقل العابرين من الغرب إلى الشرق ..

وكان يقطع هذا البر بمركبه ويعيش فى الماء منذ وعى للدنيا .. ولكن الرجل الضاحك كصفحة الماء .. المشرق الوجه أبدا .. حدث ما عكر صفو حياته منذ سنين فانقلب وجهه عابسا أغبر .. كأن شيئا يرمضه على الدوام .. وغدا عصبيا .. كثير الصراخ يهدىء أعصابه بالقهوة والدخان ويكثر منهما .. وإذا افتقدهما غدا مجنونا أو شبه مجنون .. ولهذا كانا فى جيبه أبدا ..

وكان قد جلس مع نفر من الملاحين العابرين على ظهر مركب يسألهم عن الأحوال فى ساحل روض الفرج .. وترعة المحمودية .. وعن بلدياته الريس جلال .. والريس تمام .. وعن مقطورات الصنادل .. وفى خلال حديثه ينظر إلى البر .. ويشرب القهوة ..

وكانت الأشجار الغارقة فى الماء الأسود والأعشاب البرية المختلطة بالوحل .. تعطى رائحة الطحلب المتعفن .. وكان كل ما على الأرض جامدا ساكنا كأنه الرمس .. أما النهر فكان هو الشىء الوحيد المتحرك .. وكل ما فيه يتدفق بالحياة .. وكانت المراكب الصغيرة الفارغة تروح وتجىء مع الموج مقتربة من الساحل ومبتعدة عنه .. وهى تشد حبالها .

أما المراكب الكبيرة فكانت ثابتــة كالطود مثقلـة بحمولتها .

وكان هناك على الساحل الحجرى فى الشمال نفر من العمال يعملون فى الليل ويحملون سفينة ضخمة بالأذرة .. وأرجلهم تجرى على السقالات .. كالمردة .. رغم الظلام .

وكانت القرية على بعد ميل واحد من " الموردة " وتبدو فوانيسها الكابية ونخيلها السامق .. كما تبدو هناك قهوة ساهرة فى أول الدرب .. وبها راديو يرسل الأنغام .

وخلف المراكب الراسية .. يظهر الساحل الرملى .. وكان بعض الصيادين يقتربون منه وهم يطوون الشباك والتيار يغالبهم .. وبلغوا بالزورق الصغير الشاطىء بعد صراع جبار مع الموج والتيار ..

وكان صابر يراقبهم وبمجرد أن وضعوا أرجلهم على البر قفز إليهم .. وأخذ من أحدهم شيئا طواه فى جيبه ..

وكان العمال قد فرغوا من شحن السفينة وخفت الحركة وانقطعت الأصوات .. وتمدد الملاحون على ظهر السفن .. وذهب كل انسان لينام ..

***

وبقى صابر ساهرا يشرب القهوة .. ويتحدث مع نفر من " المراكبية " عن حياة " البحر " وظهر على البر شبح يقترب من حبال المراكب ظهرت بجواره سيدة ..

وقال الرجل الغريب لصابر :
ـ عدينا .. يا عم ..
ـ أنت شايف الريح يا بنى .. مفيش همسه .. والبحر شديد .. والملاح الذى يشتغل معى روح .. ولا أحب أن أعدى فى الليل .. نغرق .. ولا نطول برا ..
ـ معايا ست .. وعيب لما تنام تحت الريح .. خذ ما تريد .

ونظر صابر إلى السيدة وظهر بياض وجهها فى الظلام .. وكانت سافرة وفى عينيها جمال ..
وقال :
ـ ليست المسألة مسألة نقود .. وانما مسألة أرواح .. والبحر لايرحم .. لايرحم أحدا ومع هذا سأذهب إلى هؤلاء المراكبيـة .. عسى أن أحـدا فيهم من يرافقنى فى هـذه الرحلة .

وذهب صابر إلى المراكب وأخذ يوقظ الملاحين .. ويرجوهم أن يرافقوه .. وسيجزل لهم العطاء .. ولكنهم رفضوا جميعا وعادوا إلى النوم .. وأخيرا قبل اثنان منهم .. ومشى أمامهما صابر إلى المركبة .

***

ومدوا السقالة للسيدة والرجل ثم انطلقوا بالمعدية .. وكان الموج عاليا .. والنيل واسعا .. والريح راكدة .. وكانوا ذاهبين مع التيار .. فاستعملوا المجاديف ليعبروا النيل إلى الشاطىء الثانى .. ولم ينشروا القلع .. وكان الملاحان اللذان استعان بهما صابر هما اللذان يجدفان .. وصابر ممسكا بالدفة ..

وكان قد فرش للسيدة والرجل على مقعد فى المؤخرة .

وبعد أن جلست السيدة رأت تحت رجليها شيئا مكورا فى بطن السفينة ولما رأت وجهه عرفت أنه آدمى .

ولاحظ صابر نظرة السيدة إلى الغلام .. فصاح فيه ..
ـ قم .. ياواد .. قم ..
فاستنكرت السيدة ..
ـ دعه .. خليه نايم .. انه طفل .. ولا يضايقنا فى شىء ..
ـ إنى أصحيه .. ليعمل قهوة .. قم يا واد نمت كفاية .. اعمل قهوة ..
ودعك الغلام عينيه .. وغاب فى جوف السفينة ..

وكانت الأمواج عالية .. وخيل إلى عبد الرازق وزوجته أن السفينة تصعد بهما جبالا من الرمال وتهبط مثلها ..

وكانت سميرة خائفة ولا تحب أن تركب " البحر " فى الليل فإنه شىء مهول ولكنها لم تستطع أن ترفض رغبة زوجها فى أن يزور أهله .. ويركب هذا الطريق ..

وكان الموج يلطم المركب بعنف ويرقص بها .. والماء أسود كالليل ..

وعندما أصبحوا فى وسط النهر .. غابوا فى ليل من بعده ليل .. ودخلوا فى ظلمات بعضها فوق بعض ظلمات ..

وكان صابر قد احتضن الدفة الغارقة فى الماء .. وهو يدخن ويستعين على أعصابه بالقهوة ..

أما الملاحان الآخران فكانا يجدفان بعنف وبدا أن العبء كله ملقى عليهما وأنهما يصارعان موجا جبارا عاتيا ..

وكانت عيونهما على السيدة الجميلة السافرة .. وكأنهما يستمدان منها القوة على هذا الصراع .. وربط بينهما الليل والسكون برباط صامت ولكنه قوى .. وأدركا أنهما يجدفان لها وحدها .. ويصارعان الموت من أجلها .. لتعيش هى .. ويعيش الباقى على هامش حياتها .. أدركا أنهما أحباها من أول نظرة .. كما يحبان القمر .. والبحر والنجوم .. دون غاية أو نفـع ملمـوس .. وأنه لولاهـا ما جدفا .. ولا أبحرا فى الليل ..

وتحدث الرجال فى كل الشئون بطلاقة وحرية .. حرية من يعيش دوما تحت السماء وفوق الماء .. ولاحظ عبد الرازق أنهم يلاحظون جيدا أن هناك سيدة معهم فى المركب فلم تخرج من أفواههم كلمة نابية .. تجرح شعور الأنثى .. كما أنهم كانوا يحرصون على راحتها وانزال السكينة على قلبها فابعدوا المركب عن الدوامات ومواطن الخطر ..

ولم تستطع سميرة أن تكشف أمامهم أكثر من وجهها ..

ظلت طول الرحلة جالسة وإن هيأوا لها مكانا للنوم .. وكانت تود أن تضطجع .. وتمد ساقيها .. وتطلق جسمها على سجيته يأخذ راحته .. وأن تملأ رئتيها وهى نائمة مسترخية من هواء النهر .. ولكنها لم تستطع أن تنام وظلت جالسة صامتة ..

وعندما انكشفت ساقاها عرضا أمام الرجال غطتها سريعا وخدها فى لون التفاح ..

وظلت صامتة تستمع إلى الحديث الذى يدور بين الرجال دون أن تشترك فيه ..

***

ورأى صابر عن بعد شيئا تتقاذفه الأمواج .. فركز بصره عليه وقد انقلبت سحنته لمرآه .. ثم حرك الدفة نحوه ..

وسأله أحد الملاحين .. عندما رآه يرجع بهم ..
ـ إلى أين ..؟
ـ نرى ذلك الشىء الغارق هناك ..
ـ انها بهيمة ..

ومضوا بالمركب حتى لامسوا الجثة وعرفوا أنها بهيمة .. واقتضى ذلك منهم وقتا وجهدا جبارا ..

ولما عادوا إلى سيرهم الأول سأل عبد الرازق :
ـ لماذا كل هذا التعب يا عم صابر .. فى سبيل شىء غارق ..
ـ اعذرنى .. يا ابنى كان لابد أن أتأكد من أنه ليس بإنسان ..
ـ وإذا كان ماذا تعمل له .. البحر واسع وكم يحمل فى جوفه من آدميين ..
ـ أبدا البحر لايحمل فى جوفه شيئا .. وانما يقذف بكل شىء إلى الساحل ..

وتقلص وجه صابر وهو يقول :
ـ حدثت لى حادثة منذ سنوات .. لم أترك بعدها غريقا فى الماء .. وأعرضه للسمك .. والكلاب ..
ـ انه ميت ..
ـ أبدا .. انه حى .. حى .. حتى يوارى فى التراب ..
ـ وإذا لم يدفن ..؟
ـ ستظل روحه تصرخ .. وتصرخ .. ولقد جربت هذا وقاسيت منه .. منذ سنوات كنا " محملين " من نجع حمادى وذاهبين إلى القاهرة .. وكانت المركب صغيرة ومعى جابر ابن عبد الموجود من بلدنا .. ولا ملاح سواه .. وكانت الريح مواتية فبلغنا سوهاج .. وبعد يوم واحد كنا مستريحين خلف خزان أسيوط .. منتظرين الهويس ..

ثم أقلعنا .. وقبل أن نقترب من منفلوط عاكستنا الريح .. وكان الموج عاتيا .. فذهب جابر يشد الحبال .. وتلفت فوجدته ساقطا فى الماء .. ولا أدرى كيف سقط .. وكان الموقف مروعا ومذهلا .. ولكننى كنت أعرف أن الغلام يجيد السباحة فاطمأننت وألقيت له .. بمجداف .. ثم بالمدراه .. ثم بكل ما فى السفينة من قطع خشبية .. ليستعين بها على الموج والتيار .. ولكنه لم يستطع أن يتعلق بواحدة منها .. وظل يسبح ثم غاص .. وظهر .. ثم غاص .. وظهر مرة أخرى وذراعه تتحرك .. وفى المرة الثالثة .. أخذته الدوامة .. ولم أره .. بعدها ..

ورسوت تحت قرية من القرى .. وبلغت العمدة .. ثم أقلعت .. وفى اليوم الخامس رأيت جثته .. تنطح جانب المركب .. ولكننى لم أنتشلها .. وتركته للتيار وقلت لنفسى انه مات .. وقدر عليه أن يموت فى الماء فليكن الماء قبره ومثواه ..

ولما عدت إلى بلدى .. أخبرت أمه بما حدث .. فبكت .. وسألتنى :
ـ وهل دفنته ..؟
ـ أجل ..
ـ أين ..؟

وهزنى السؤال فاضطربت ثم قلت سريعا ..
ـ فى منفلوط .. وكلها أرض الله ..
ـ وأين الحجاب الذى على قلبه ..؟
ـ نسيته .. أنسانيه الحزن ..
واطمأنت ..

ولكن قلبى لم يطمئن .. فكنت إذا جن الليل أتصوره وهو ينطح جدار المركب لأنتشله .. وأدفنه .. ولكننى لم أفعل وتركته للأمواج ..

فكنت أصرخ .. وأسمع روح الغلام تصرخ ومن وقتها وأنا آكل الأفيون ..

وتأثرت سميرة من حديث صابر وبكت ..

***

وبلغوا ساحل القرية وطلع عبد الرازق وسميرة من المركب .. وبعد أن منحا صابرا أجرا طيبا ..

وعادت المركب تستقبل من طريقها ما استدبرت .. ولكن بمشقة ..

وقال صابر لابنه لما رأى المركب لاتتحرك إلى الأمام ..
ـ تعال امسك الدفة .. وخلينى أجدف مع بلدياتنا ..
ـ خليه مستريح ..
ـ لا امسك ..

وأمسك الغلام بالدفة .. وجدف أبوه مع الرجلين .. وكانوا فى العودة ضد التيار والموج عاليا والريح لاتزال راكدة .. فلم يتقدموا من مكانهم .. وغلبهم التيار .. لم تقو عليه المجاديف ..

ـ حل يا حسن القلع ..

فأخذ الغلام .. يشد الحبل .. وبقيت عقدة لم تحل فى أعلا السارية فلم ينتشر القلع ..

ـ اطلع حلها ..

وترك الغلام الدفة لأبيه واندفع إلى السارية .. ولم يبصروا به وهو ساقط من أعلا وانما أحسوا بجسمه وهو ساقط فى الماء وصرخوا .. وقذف الأب بنفسه وراءه .. وظهر الغلام على السطح ثم غاص .. وراح فى الدوامة ..

وأتت موجة عالية عاتية .. وأصبحت الدنيا كلها ظلمات .. وظلوا يبحثون ساعات دون جدوى .. وأخرج الملاحان الأب من الماء .. وظلا يواصلان البحث ..

***

وكان صابر فى أعماقه يعرف أنه لاجدوى من البحث .. وأنه قد أن له بعد كل هذه السنوات .. أن يكفر عن ذنبه ..

وترك المركب للأمواج .. وأفسح لنفسه مكانا عند الدفة وسجد سجدتين ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 7/5/1957 وأعيد نشرها بالمجموعة القصصية لمحمود البدوى " الزلة الأولى " عام 1959
=================================

ليست هناك تعليقات: