الجمعة، ١٧ أبريل ٢٠١٥



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان

السبت، ١٣ أكتوبر ٢٠٠٧

الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

الرماد ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الرماد
قصة محمود البدوى


كانت الليلة شديدة الظلمة .. والريح تعوى فى البساتين .. عاصفة بأوراق الاشجار وسعف النخيل .. وكانت بداية رياح الخماسين على منطقة الصعيد .. ولم تخف وطأتها بالليل كما كان متوقعا بل ظلت تهب على قرية المعصرة محملة بالرمال والغبار ولم يكن للفلاحين سبيل إلى مقاومتها غير الاحتماء فى البيوت .. وحبس الماشية .. فى الحظائر .

وكان الغبار الشديد قد حجب الرؤية تماما .. ولف القرية فى مثل الضباب الأشهب فزاد من وقع الظلام وخفت الرجل فى الدروب ولم يعد يسمع إلا نباح الكلاب .. كلما بصرت بشبح يتحرك فى جوف الليل .

وكان هناك رجل يمشى .. فى قلب الزوبعة .. غير حافل بها ويتجه إلى القرية بخطى ثابتة وكان قد عبر النيل من البر الغربى فى زورق صياد رماه عند الغسق تحت القرية وظل الرجل فى مكانه تحت الريح حيث أخرجه الصياد منتظرا الساعة التى قدرها لتحركه .. ولما مالت النجوم انحدر سعيا إلى القرية..

وكان نباح الكلاب يشتد وهو يقترب والظلمة تبدو أكثر جهامة .. ولكن الزوبعة كانت قد خفت نوعا وخف ما تحمله من أتربة وأصبحت الرؤية مستطاعة فى ظل الأضواء الشاحبة المطلة من طاقات البيوت .

ولما أصبح على مبعدة نصف فرسخ من القرية جلس بجانب قنطرة هناك يدور بعينيه فى الظلمة وقد خلع البندقية عن كتفه .. ووضع العباءة الحمراء.. على الأرض بعد أن طواها طيتين .. وأمسك بخزان الرصاص يتفحصه ثم أداره على وسطه ، وأشعل سيجارة ثم أطفأ رمادها .. ونهض واتخذ طريق النخيل .

وكان حسان يدخل قرية المعصرة لأول مرة منذ عشر سنوات .. مع إنها على مبعدة ثلاثة فراسخ من قريته ومتداخلة فى زراعتها ولكنه كان قد أقسم منذ أن قتل والده غيلة وهو راجع من السوق ألا تطأ قدمه أرضها إلا بعد أن يقتص لأبيه ويأخذ بثأره فقد كان حسان أكبر أخوته وكان عليه وحده أن يغسل الدم الذى لوث الأسرة ويمحو العار ..

ولكن القدر كان له بالمرصاد .. فقد مات الرجل الذى قتل والده موتة طبيعية بعد شهر واحد من الحادث ولم يمزق جسمه الرصاص .. كما كان يتمنى .. وترك القاتل غلاما يدعى عباس فى الثانية عشرة من عمره .. وكان حسان يود أن يقتله .. ولكن أم حسان منعته من قتله حتى يشتد ساعد الغلام ويمسك البندقية مثله وهنا يتصارع الندان والا يصبح الثأر مهزلة وأضحوكة الفلاحين .

ولما بلغ عباس مبلغ الرجال ترصد له حسان وعرف كل تحركاته فى الليل والنهار .. وخرج له فى هذه الليلة ليطارده ويرديه .. وكان الغضب يثير دمه .

وتمثل له حادث مقتل والده الذى حدث منذ سنوات طويلة وكأنه قتل منذ ساعة فرجع يحرق الارم .. ويعض على نواجذه غيظا .. وتقدم بين أعراش النخيل .. حتى رأى نورا ينبعث من بيت صغير خارج القرية فاقترب منه .. فلما كان على بابه وجد طفلا صغيرا على العتبة . فطلب منه أن يشرب .. وخرجت أم الطفل بالكوز ووقفت سافرة تتأمل وجه الرجل الغريب وهو يروى ظمأه .

وسألته :
ــ هل أنت قادم من السوق ؟
ــ أجل .. وتأخرت .. كما ترين ..
ــ يبدو لى انك لم تشتر شيئا ..
ــ كنت أود أن أشترى بقرة .. بدل التى نفقت فى « البرسيم » ولكننى وجدت البقر غاليا جدا .. فرأيت أن من الخير لى أن أشترى من سوق السبت..
ــ اذهب .. إلى بيت عبد الصبور .. انه يتاجر فى البهائم .. وهو يستطيع أن يشترى لك بقرة رخيصة .. من منفلوط أو الحواتكة .. أو حتى من ديروط.. أنه يتردد على هذه البلاد كلها ..
ــ فكرت فى هذا على التحقيق .. بعد أن خرجت من السوق
ــ أو تعرف بيته .. ليذهب معك هشام ..
ــ الشكر لك .. اننى أعرف مكانه .. وسأجده الساعة فى مقهى القرية .
ــ أجل انك ستجده فى مقهى رميح .. يشرب الشاى هناك وربما كان يلعب الورق مع الفتيان .
ــ كتر خيرك ..

وحركت المرأة طرحتها ولمست بها شفتيها الرقيقتين .. وهى تتحدث كأنها تغطى أسنانها اللؤلؤية فتزيدها بريقا وصفاء أو تزيد من جمال وجهها .. وكانت ناضرة المحيا وهى سافرة .. ولكن هذه الحركة التقليدية زادتها فتنة .

وكان حسان يرى فيها وجه أمه قبل أن تترمل .. ويذبلها الحزن والاسى .. بعد مصرع والده .. وشكرها وانصرف ..
وظلت المرأة تلاحقه ببصرها حتى بعد أن أبعد ودخل فى الظلمة ..

***

وكان حسان يعرف أن غريمه عباس يجلس فى هذه الساعة فى المقهى الذى فى الدرب الرئيسى والذى يشق القرية نصفين يشرب الشاى .. ويتحدث مع الفلاحين فرأى أن يكمن له فى البستان الذى خلف القهوة حتى يخرج منها إلى الدرب . وهنا يرديه برصاصة مصوبة إلى القلب .

وجلس حسان فى البستان .. متلفعا ومتوثبا لغريمه .. وعيناه ترقبان فى حذر وتيقظ ..

ومرت لحظات رهيبة كان يسمع فيها صفير الريح .. وعواء أشبه بعواء الذئاب .. ثم صرخات مكتومة كأنها خارجة من الجحيم ..

وكان الليل يلف البستان فى شملته السوداء .. ومقابر القرية خلفه تبدو كأنها فاتحة أفواهها لكل نازل جديد .

وكانت أوراق الشجر تتطاير تحته كلما سفعتها الريح .. وأحس برعشة وهو جالس وحده .. وخلفه المقابر .. وجرى فى حسبانه .. ان عباس قد لاتصيبه أول رصاصة .. وهنا يستدير إليه .. وقد يقتله .. وظل هذا الخاطر يعذبه .

ولكنه استفاق منه .. وهو يتأمل سلاحه وكان من أحدث طراز من البنادق وعاوده الاطمئنان ولمح رجلا فى مثل قامة عباس يخرج من المقهى ويمشى فى الدرب .. فحدق فى الظلمة ويده على الزناد ولكنه تبين انه شخص آخر .. فتوارى خلف سياج البستان كما كان ..

ومرت دقائق من الانتظار الرهيب .. كانت قاسية وشديدة الوقع على نفسه .. واشتاق لأن يدخن سيجارة ومع أن العلبة كانت فى جيبه ولكنه خشى أن يدل ضوء السيجارة على مكمنه فظل فى مجلسه قلقا يمر بساعة الانتظار الرهيبة ..

***

وفجأة أحس برائحة النار من حوله فاستدار برأسه فرأى دخانا كثيفا يتصاعد فى الجو ويدخل فى الظلمة .. ثم سمع على أثره صراخا .. ورأى ألسنة اللهب .. تتصاعد من مدخل القرية . والدخان يتجمع ويتلوى فى أعمدة ثم تحمله الريح إلى ناحيته .. والنار تزداد اشتعالا كلما هبت الريح ..

وعندما وثب من مكانه .. وتطلع من مكان عال .. كان الجانب الشرقى من القرية يشتعل كله ..

اشتعلت البيوت والأكواخ الصغيرة والكبيرة .. واشتعل الدريس .. وسعف النخيل واشتعلت حتى صوامع الغلال .

وسحبت البهائم أوتادها وطارت بها وفزعت الكلاب .. وجرت الطيور على وجوهها مذعورة وهى ترفرف بأجنحتها وتصوصو .

وكان الشرر يتطاير .. والدخان يحجب السماء ..

وجرى الرجال والنساء وحتى الأولاد الصغار فى كل اتجاه يحملون القدور والبلاليص والدلاء ليكافحوا بها النيران ..

وتجمعت جموع الناس تحت الوهج المشتعل ..

ووقف حسان بعيدا خلف الجموع والبندقية لا تزال فى يده يرقب اللهب..

ثم رأى شيئا جعله ينتفض .. فقد رأى المرأة التى سقته الماء منذ ساعة واقفة على الجسر .. تصرخ وقد شقت ثوبها .. وكان بيتها قد اشتعلت فيه النار وفى داخل البيت غلامها الصغير الذى رآه حسان .. ولا أحد يستطيع أن يجتاز حلقة النار .. ويدخل وسط اللهب لينقذه ..

وكان صراخ المرأة يفطر الأفئدة ..

ورأى حسان رجلا يندفع فى وسط اللهب .. وخيم السكون ووجفت القلوب .. وحدقت العيون ..

***

وخرج الرجل من قلب النار حاملا الطفل على صدره .. وعرفه حسان .. أنه عباس الذى يطارده .. وبكت الأم من الفرح وتناولت طفلها ..

***

ووقف حسان فى مكانه يتأمل المنظر لحظات ثم وجد نفسه يحرك أكرة البندقية ويخرج منها مشط الرصاص ..

وكانت النيران مازالت تأكل بعض الجريد والدريس .. ولكن ثورتها قد خمدت تماما ..

ولم يعد فى مقدورها أن تأكل شيئا آخر .. كانت قد تحولت ثورتها إلى رماد ..
===============================
نشرت القصة فى صحيفة المساء 17/12/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة ليلة فى الطريق لمحمود البدوى سنة 1962
================================

الكردان ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الكردان
قصة محمود البدوى


كان العشى يزحف على القرية .. وتسربت خيوط الظلمة إلى داخل الأفنية وبدت السنة الدخان الأسود تتصاعد من سطح البيوت .. إيذانا باعداد العشاء للرجال العائدين من الحقول .

وكان الهواء ثقيلا فى داخل المنازل وخارجها .. وظلت الدواجن والفراريج رغم الظلمة الهابطة تنقر الأرض الجافة حول المساكن .. وفى أطراف البساتين .

وكانت حوافر الدواب تحفر على الجسر فى الأرض المتربة .. والكلاب تتوثب وهى تنبح بشدة .. كلما دخل القرية فوج جديد .

وأخذت أسراب من الأوز والبط والديكة تصرخ وهى تجرى باحثة عن ملجأ من هذه الأرجل العمياء .

وظلت الأبقار تثغو .. كأنها تنادى .. عجولها الصغيرة .
وكانت القرية مشهورة بأبقارها السمينة إذ أنها تطلقها ترعى على هواها فى أرض الجزيرة البكر طوال السنة تحت الشمس الضاحـكة .. والهواء الطلق .. فتنـمو كالعشـب البرى مكتنزة سليمة .

وعندما تغمر الجزيرة مياه الفيضان فى سبتمبر من كل عام وتغرق الصوامع والزرابى تنقل المواشى إلى القرية .

وكان عبد الرحمن فراج وهو فلاح كادح من أهل القرية .. يعنى بتربية العجول .. ويملك أحسن قطيع للماشية .. وكان قطيــعه يأتى مع آخر فوج .. ووقف على الجسر ينتظره .

وكان ابنه حسان يسوق البهائم إلى القرية قبل أن تطفل الشمس .

وكانت تسير فى طريق الوادى المقفر وقد اعتاد الفلاحون على سلوك هذا الطريق ليختصروا من المسافة أربعة فراسخ .

وكان عبد الرحمن يتوقع عودة قطيعه فى الغروب فلما تأخر ترك الجسر وخرج لملاقاته فى البرية وتقدم الرجل فى خط مستقيم تجاه النيل .. وبعد أن ابتعد بمقدار فرسخين عن القرية .. انتابته الهواجس .. وخشى أن يكون ابنه قد أصابه مكروه .. فسرقت منه البهائم وقتله اللصوص .. وجعله هذا الخاطر يسرع فى مشيته ويشحذ حواسه .. ولما بلغ بطن الوادى أحس بأنفاس التراب الذى تحته وبالهواء الراكد يخنقه .. وسمع حركة فأرهف سمعه .. وحاول بجدع الأنف أن يسمع حوافر الدواب وهى مقبلة من بعيد .. وكان نظره الثاقب لايستقر فى مكان .. ورأى الحسك والشوك والعشب البرى ينمو فى مواضع متفرقة .. وبقايا الجذور السوداء قائمة هناك فى التربة القاحلة .

وأصبحت البرية أشد وحشة ورهبة فى الليل .

ورأى سوادا يتحرك .. فلما تبينه بوضوح لم يجده شيئا .. وكان قد أبعد عن الطريق المألوف وعن المزارع .. ولكنه كان يسمع نباح الكلاب يتأتى اليه من بعيد .. وكان الغسق يدمى .. والريح ساكنة سكون الموت .

وفيما هو متجه نحو الشرق اقترب من شجرة صغيرة من أشجار السنط .. النابتة بفضل الطبيعة فى تلك البقعة الجرداء فتوقف بجوارها يأخذ أنفاسه ثم جلس وأشعل لنفسه سيجارة .. بعد أن أراح البندقية أمامه وتفرس فى الظلام وومض شىء فى السماء كالشهب .. ثم عادت الظلمة أشد مما كانت ..

وأخذ وهو جالس القرفصاء يعبث بأصابعه فى الأرض الرملية فلمس شيئا مدفونا فى الرمال وأزاح بيده التراب .. حتى غابت أنامله فى شعر غزير ، وأدرك أنه شعر إنسان ، فارتعش بدنه .. وظل جامدا بلا حراك .. وعيناه تحدقان فى رعب .. فقد فوجىء بشىء لم يكن يتوقع وجوده أصلا فى هذا المكان .

ولما عادت إليه نفسه انحنى وأزاح التراب سريعا .. فقد تصور الجسم المدفون لايزال حيا .

ورأى فى عتمة الليل وجه فتاة من أهل القرية مشهورة بجمالها الفتان .. فتاة لاكتها الألسنة أخيرا وبلغ خبر السوء أهلها .. وهاهم قد واروها مع الخبر فى التراب .

اقترب عبد الرحمن من وجه " نجية " يتأملها فى سكون الموت .. كانت الفتاة لاتزال محتفظة بنضارتها وكأنها مازالت تتنفس .. كان وجهها لايزال على جماله .. ولم يأخذ منه الموت بعد .. وأحس عبد الرحمن برجفة وذعر .. ان القتل رهيب .. والروح التى انطلقت فى عليين منذ لحظات .. هى التى ترعشه الآن .. انتابته رعدة لم يحس بمثلها فى حياته .

كان احساسه بأن بجواره فتاة قد قتلت منذ ساعة قد شل حواسه وأرعش بدنه وهو الريفى الجسور .. وكم من مرة خرج فى الليل .. وجاب الطرقات .. ولكنه الآن يموت من الذعر .. ومعه السلاح .. وكم من مرة نزل إلى القبور ووسد بيديه هاتين الموتى من الفلاحين .. ولم يشعر بغير الحزن الذى يحس به الانسان نحو الموتى .. ولكنه يرتجف الساعة لأن بجواره قتيلا والقتل رهيب وبشع .. ولقد لمس رهبته وبشاعته .. ان الروح ليست رخيصة بالحد الذى يتصوره السفاحون .

وعاد يتأمل وجه " نجية " .. كانت نائمة نوما لاحلم فيه .. وخدها على كفيها .. وشعرها الغزير الأسود كليل يدخل فى ليل ..

وبدت له فى الواقع أجمل من كل من رأى من النساء ومع أنها ماتت مخنوقة .. ولكنها ظلت جميلة .. ولم يستطع الموت أن يمحو نضارتها .. وحدق فى وجهها ورأى آثار الأصابع فى عنقها .. وخطا أزرق فى مكان الكردان الذى كان عليها .

ونفض عن ثوبها الأزرق الرمال العالقة به .. وغطى وجهه بملحفته .. ثم استقبل القبلة وصلى عليها ركعتين ..

وعاد فحفر لها حفرة بعيدا عن مواطىء الأقدام .. وسـواها فيها ..

ووقف وقد غلبه الحزن ينفض عن ثوبه التراب ويفكر فى الذى فعل هذه الجريمة من أهل الفتاة .. قد يكون عمها عبد الصبور .. وقد يكون خالها هشام أو أخوها خليفة ، ان الجهالة تركبهم جميعا فى مثل هذه الحالة وطباعهم طباع السفاحين .. وحار فيمن فعل ..

وأحس بالأسى على عقل الانسان عندما يتلوث .. ويتحكم فيه الشيطان .. واعتصر قلبه آلام على المصير الذى لاقته الفتاة المسكينة وفكر فى أنها مظلومة .. وأنها رميت بالسوء دون بينة .. وأن الجهالة تعمى البصيرة وتغلق كل مسالك العقل وتدفع إلى الجنون .

***

وكان حادث الفتاة قد أنساه ابنه حسان فرجع يفكر فيه .. وفى سبب تأخره إلى هذه الساعة ثم خطر له أن يطلق طلقة فى الهواء فإن كان ابنه قريبا من المكان وسمع صوت الطلقة سيرد عليها بمثلها .

ورفع البندقية .. وأطلق طلقة وجاء الرد سريعا من طلقة مكبوتة لم يهتز لها الجو ..

ولكنه سمعها بوضوح بسبب ركود الهواء .. وشعر بالفرحـــة .. وتحرك فى اتجاه المكان الذى خرجت منه الطلقة .

وكانت النجوم قد أخذت تلتمع فى السماء وبدت الظلمة فى البرية أخف مما كانت من قبل .

وتطلع الرجل إلى التل .. ورأى عن بعد خطا أسود يتحرك فى الظلام فى بطء وسكون .. وأحس بأنه قطيعه .. وانحرف إلى التل ليكون أسرع فى الوصول إليه ، وتعثرت قدماه وهى تمضى على عجل فى رجل ملقى على سفح التل .. فاستدار إليه وهو يحسبه نائما أو أصيب بضربة شمس .. ولما حركه وجده خليفة أخا الفتاة المقتولة .

وقد أصيب برصاصة فى صدره والدم مازال ينزف منه .. ورأى يده قابضة على شىء .. الكردان الذى انتزعه من عنق الفتاة منذ ساعة ولعله كان يحمله إلى أهله كدليل على تنفيذ جريمته .

وعجب عبد الرحمن للضربة التى جاءت سريعا دون أن يحسب لها حسابا .. ولم يكن يدرى أرصاصته هو أم رصاصة ابنه هى التى قتلت الرجل ولكنها على كلتا الحالتين كانت ضربة من القدر فى صدر الجريمة وجاءت سريعا قبل أن يجف الدم المهدور .

وحفر عبد الرحمن حفرة للرجل وسواه فيها كما سوى من قبل الفتاة .

وأطلت فى هذه اللحظة رءوس القطيع من فوق التل !!
=================================
نشرت القصة بصحيفة المساء فى 1691960 وأعيد نشرها بمجموعة "قصص من الصعيد " من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
=================================

الطلقة الأخيرة ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الطلقة الاخيرة
قصة محمود البدوى


كانت زراعة القمح هى الزراعة الغالبة فى قريتنا .. وكان محصوله يأتى بأجود غلة فى المنطقة على الإطلاق .
وكانت أيام الحصاد هى عيدنا كل سنة ... وكنا نتخلف عن المدرسة بسببها .. حتى وإن اقترب الامتحان .. وعندما يتكوم القش فى الأجران وتدور عليه النوارج .. كنا نشعر بالبهجة الحقيقية للإنسان .
وبعد الدريس .. نبدأ فى تذرية الجرن فى الليالى القمرية الطيبة الريح ..
ولما تنفصل الغلة عن التبن .. ونراها فى أكوام مخروطية ضخمة يبلغ بنا الفرح مداه .. ونحرسها من « العين » بالنواطير .. التى نقيمها فى طريق المزرعة . ونزيد من البركة .. بالقلة الفخارية الممتلئة إلى حافتها بالماء نغرسها فى الغلة .
وكانت أحسن أنواع القمح نزرعها فى الجزيرة .. حيث الأرض العذراء التى لم يمزق تربتها السماد .
وكانت الجزيرة تبعد عن القرية بمسافة أربعة فراسخ .. وتقع على العدوة الأخرى من النيل ..
وكنا عندما نذهب إليها لندخل المحصول فى المخازن . ننقطع انقطاعا كليا عن القرية ما يقرب من الشهر وكانت هذه الأيام هى أجمل أيام حياتنا .. كنا نحس ببراعم شبابنا تتفتح للحياة فى الشمس الضاحكة .. والهواء الطلق .. وكنا نستحم فى النيل .. ونجرى حفاة الأقدام .. ونصطاد السمك المتدفق من الفيضان .. ونشعر بأن حريتنا تأخذ كل مداها وكل طاقتها .
وكنا نقضى ساعة القيلولة فى الخص مستظلين من وهج الشمس الحامية نلعب الطرطقة .. والسيجة ..
وكانت حولنا .. الماشية والطيور متروكة على سجيتها ، وهواها ..
وكانت الجمال باركة تجتر .. والثيران والابقار فى صف واحد وأمامها التبن المخلوط بالفول والنخالة .. والجاموس بعد أن أستحم .. فى النيل .. نام على الحشائش وجلده يلمع تحت ضوء الشمس .. وطيور .. الدجاج . والبط. والأوز . ترعى الحب .. كما اتفق . وتستحم فى مجراة « الوابور » .
وكان بجوار الوابور .. صف من المساكن .. من الطين والبوص وجريد النخيل .. وكان الأطفال يلعبون فى الطين ، والوحل .. وثيابهم ممزقة .. وعيونهم متسخة .. ووجوههم ملطخة بالوحل .. وأمهاتهم فى الداخل ينفخون النيران .. أو فى الخارج يملأن القدور أو البلاليص .. من مجراة الوابور .. أو ينحدرن فى الطريق إلى النيل .. وعلى رؤسهن الطرح ..
فإذا جاء العشى .. افترشنا الدريس تحت السماء المتألقة بالنجوم وأخرج أبو طاحون المزمار الطويل من جرابه وأخذ يزمر .. وكانت عنده قدرة عجيبة على النفخ دون أن يسترد أنفاسه .. وبراعة فى إخراج أعذب الأنغام .. وكان جمالا قوى البدن يقود أربعة من الجمال الضخمة .. ويلبس نعلا طويل العنق مضفرا .. وإذا جلس إلى المزمار .. نسى نفسه .. واستغرق فى فنه .. وكنا عندما نجلس حوله ننسى أنفسنا كذلك وننسى كل ما يجرى فى الحياة الخارجة عن نطاق حدودنا .
وكانت لنا ثلاثة أجران كبيرة .. لا تتغير أبدا .. ولم نكن ننقص أو نزيد من مقدار الأرض التى نزرعها قمحا بمقدار قيراط واحد .. أو نغير من موقع الجرن .. كان كل شىء يجرى على ترتيب ونظام دقيقين .. منذ حياة جدى عبد المنعم . فلما خلفه والدى سار على نسقه ومنهاجه ولم يغير طريقته وترك بيت « الوسية » يسير كما كان ..
وكان الشىء المتصل بالحصاد دائما والذى يبرز بمجرد حدوثه .. هو حارس الأجران عمار .. وكان يحرس أجراننا منذ ثلاثين سنة .. ولم يغير فى خلالها موضع خصة المجدول بالليف .
وكان عمار .. فى الفترة التى سبقت هذا العمل من أشد الرجال بطشا .. كان اسمه يرعب القلوب الفتية ..
وقد ظل الرجل طوال هذه السنين .. وحتى بعد أن انقطع عن حياة الليل.. محتفظا بكل جبروته .. وكل قوته . وكان متوسط الطول يرتدى جلبابا من الصوف المغزول ولبدة حمراء وفى وجهه المستطيل نمش خفيف .. وفى عينية نظرة الليث إذا خرج من عرينه .
وحتى بعد أن كبر وانحنى جذعه قليلا .. ظلت النظرة الكاسرة من أبرز صفاته ..
وكان حليما خفيض الصوت .. يجرد يده من السلاح .. فى النهار والليل... وكان إذا حدث ما يثيره سمعت لبندقيته زئير الأسد ..
* * *
وكانت الجزيرة لرداءة مواصلاتها .. وبعدها عن نقطة البوليس تكثر فيها حوادث السرقة والنهب .. وقل من يتحرك فيها فى الليل لهذا السبب ..
ولكن منطقة عمار كانت من أكثر المناطق أمنًا .. وكان الفلاحون يجلسون بجوار خصه ويلوذون به .. ليصبحوا فى المنطقة الآمنة .
وكان الرجل يسر جدا عندما أجىء إليه فى الأسبوع الثانى من شهر يونيه ومعى بعض الكتب التى أتسلى بقراءتها فى هذا المكان المنعزل ومع أنه لا يعرف القراءة والكتابة .. ولا فرق عنده بين الحروف العربية والحروف الصينية .. ولكنه كان يسر جدا من النور الذى يتصوره دوما يشع من الكتب.. وكنت فى نظره مثالا للشباب المتزن المتنور .. يقارننى بأبناء من يعرفهم من الفلاحين الذين يدفعهم الفقر والجهل إلى الجريمة .. ويشعر فى قرارة نفسه بالأسف لأن أولاده شبوا جهلاء مثله .. ولم يكن فى استطاعته أن يصرف عليهن ويعلمهن فى البندر ولم تكن هناك مدرسة فى القرية ..
وكان عنده ثلاثة أولاد وبنت واحدة .. وكانت البنت متزوجة .. وأكبر الأولاد يعمل فى المراكب .. أما الولدان الآخران فكانا يعيشان معه .. وكان خليفة أكبرهم .. وكان فى العشرين من عمره .. طويلا مفتول العضلات .. وكان يرعى الغنم فى الجزيرة .. ومن الغروب .. يسرحها . ويعود لبيته .أما الولد الثانى تغيان فكان أصغر أولاده وكان يساعد والده فى عمله ..
* * *
وكنت على الرغم من وجود الكتب معى فى هذه المنطقة .. أشعر بالسأم من الحياة الرتيبة التى يعيشها الفلاحون ، وكان الخص فى مواجهة غيط من الذرة الشامية كان ملاصقا للاجران فكنت أرقب منه .. الفلاحين وهم يعزقون الأرض ويسقون الزرع .. من مجراة الوابور .. وكنت كثيرا ما أسمع صراخ النسوة فى البيوت القريبة منا .. ثم أرى على الاثر جموعا من الفلاحين خارجين من الغيطان بفئوسهم وهراواتهم .. ومن عيونهم يطل الشرر ..
ولكن مجرد ظهور عمار من بعيد كان يغير الموقف فى الحال ويطفىء هذه النار المشتعلة .. وينسحب الفلاحون وتنفض جموعهم قبل أن يقترب منهم .. لم يكن أحد منهم يجرؤ حتى على رفع صوته فى حضرته ..
وكنت أسأل عن سبب هذا العراك فأعرف أن نعجة لفلاح أكلت من غيط فلاح آخر .. ولهذا السبب التافه تدور المعركة الحامية التى تسيل فيها الدماء .. ولولا وجودعمار فى تلك الساعة لسقط أكثر من صريع .. كانوا يتعاركون لاتفه سبب ويقضون النهار فى منازعات على القيراط والسهم ويتوجسون شرا من كل إنسان .. فما من إنسان ينفعهم أو يرعى حالهم وانما الكل يأخذون منهم ولا يعطونهم شيئا ..
وكان هذا الاحساس بالظلم ينفجر عندهم فى ظلام الليل ويدفعهم إلى السرقة والى السطو على العزب والقرى المجاورة ..
* * *
ولم أشاهد فى الأسبوع الأول والثانى من إقامتى فى هذا المكان .. إلا الوجوه التى ألفتها .. ولكن بمجرد ظهور الغلة ظهرت الرجل الغريبة .. ظهر الباعة على الحمير ومترجلين يبيعون المناديل الزاهية .. وأثواب الدمور والشاى والدخان .. وقطع الصابون المعطرة .
وكانوا يأتون من البندر ومن القرى المجاورة ..
وفى عصر يوم مرت على الأجران امرأة وكانت تحمل على رأسها صرة كبيرة فيها كل ما يحتاجه الفلاح .. من دخان .. ومناديل .. وكل أصناف الأقمشة الشعبية .. ولما رأتنى وحدى فى « الخص » اقتربت منى .. ورأيت لها وجها صبوحا وعينين دعجاوين .. وفما غليظ الشفة وحسنة كبيرة على الخد وحلقة مغروسة فى الانف الدقيق .. وعرضت كل ما عندها من بضاعة.. وألحت لاشترى منها شيئا بدلال الأنثى الناضجة .. ولكنى رفضت.. فذهبت بهدوء إلى النخيل ..
وفى اليوم الثانى جاءت فى نفس الميعاد تعرض بضاعتها ، وأصبحت تجىء كل يوم ..
وعرف الفلاحون أن اسمها ناعسة .. وكنا لا نستطيع أن نشترى منها شيئا لأننا كنا نتعامل بالغلة .. وكنا لم نضرب الكيلة فى الغلة بعد ..
ونتشاءم جدا من مس أكوام الغلال قبل أن ندخل شيئا منها فى البيوت ..
وفى عصر يوم شاهدتها .. ترقص على مزمار أبو طاحون .. وكانت مثيرة فى رقصها وحركاتها .. والبريق المشع من عينيها ..
وظل السامر مشتعلا إلى الليل ... ثم أطفأت بفمها النار . وانثنت وحملت صرتها .. وذهبت إلى النخيل .. وظللنا نتبعها بأبصارنا حتى توارت ..
* * *
وشغلنا فى صباح اليوم التالى بإدخال المحصول .. بدأنا بأول جرن وأخذت الجمال تحمل الزكائب وتسير فى صف طويل ..
وكانت قوة الشباب من الفلاحين .. تظهر فى أثناء هذا العمل .. كانوا يعملون من شروق الشمس إلى غروبها دون كلل .. وكان منهم من يرفع الزكيبة فى رفعة واحدة ..
ولاحظت من اليوم الأول أن خليفة ابن عمار .. هو أشد الفتيان قوة ..
كان يبزهم جميعا .. يرفع عشر كيلات فى رفعة واحدة ..
وكان والده ينظر إلى قوته فى فخر وزهو ..
وكان تخزين المحصول يستغرق خمسة أو ستة أيام ..
وكان عمار فى هذه الأيام لاينام فى الليل أبدا .. لأن سرقة كيلة من القمح كانت تأتى للفلاح بثوب من الدمور ..
وكانت زراعة الذرة ملاصقة لنا .. ومن السهل أن يتسرب منها اللص إلى الجرن ثم يعود ويختفى فيها ..
وكان الرجل مرهوبا بطبعه .. ولم يكن هناك إنسان يجرؤ على الاقتراب منه .. ولكن الشيطان لايفتأ يوسوس فى صدور الناس .. ولذلك تنبغى اليقظة دائما ..
وكنا بعد أن نكيل الغلة فى آخر النهار .. نسوى « الهدار » ونعلمه .. حتى إذا سرق منه شىء فى ظلام الليل عرفنا ..
وكنت أنام قريبا من الغلة .. على حرام ومخدة .. وتحت رجلى بطانية .. ولم أكن استعملها إلا لأتقى بها الناموس .. وكان عمار ينام قريبا منى وحولنا الفلاحون المشتغلون فى الجرن
وكنت أنام فى معظم الليالى بمجرد أن أضع رأسى على المخدة لانى كنت أطمئن إلى حراسته .
وذات صباح استيقظت مبكرا على صياح فلاحة قريبا منا . وسمعتها تقول:
ــ الأولاد .. سرقوا البقرة .. ياعمار .. وكان دليلهم ابن عبد الصبور ..
ورد عليها عمار
ــ ابن عبد الصبور .. لا يأتى بالناس الغريبة إلى هنا .. ولا يسرق ..روحى ابحثى عن السارق ..
ــ هو الذى سرقها .. وباعوها .. وأخذوا الفلوس .. وبيروح بالفلوس عند « الغازية » فى النخيل ..
ــ روحى ياولية .. روحى .. ابحثى عن السارق الحقيقى .. فلا يوجد عندنا من يسرق ..
قال هذا عمار بغضب .. فذهبت المرأة ..
وفى الضحى وكنا جالسين فى الخص مر علينا ابن عبد الصبور .. فصاح فيه عمار ..
ــ انت ياولد .. يا حمدان ..
ــ نعم ...
ــ روح هات .. بقرة فطوم .. كما أخذتها .. وفى الظهر تكون البقرة هنا. فى الظهر .. وإلا أنت عارف ما سيحدث لك ...
ــ أنا لم آخذ بقرا .. من أحد .. ولا أعرف زريبة فطوم .
ــ الأحسن لك ان تأتى بها .. وأنا منتظر ..
ــ أنا لم آخذ البقرة .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
واستمر يصيح هكذا .. ولم يرد عليه عمار ..
وقبل أن ينتصف النهار رأينا البقرة مقبلة وحدها بين الغيطان .
* * *
وفى صباح يوم من أيام الاثنين بدأنا « ندخل » غلة الجرن الثانى .. وبعد أن انتهى الكيل .. سوينا الغلة الباقية وعلمناها كالعادة .. ولاحظت فى ندى الصباح بعد أن طلع النور ان هدار الغلة .. قد جرح وأخذ منه .. نصف أردب على الاقل .. لم احدث عمار .. بالذى حدث ولكننى لاحظت بعد ان دار دورتين حول أكوام الغلال كعادته .. ان سحنته قد تقلصت .. ولم يحدثنى بشىء .. ولكنه ظل طول النهار ..متجهما على غير عادته .. وكان يقلقه ان يلاحظ الكيال .. والفلاحين الذين يشيلون الزكائب .. فتضيع هيبته فى الجزيرة ويسرى الخبر حتى يصل إلى القرية ..
* * *
وفى الليل .. لما جلسنا على الجرن قريبا من الغلة لاحظت انه لايزال مشغولا بما حدث .. وأخذنا نشرب الشاى ونتحدث ولف لنفسه سيجارة .. وأخذ يدخن ..
ومر بنا فى الطريق الزراعى ثلاثة عساكر على الخيل .. وكانوا يسرعون..
فسألت عمار ..
ــ هل حدث شىء فى الجزيرة ؟
ــ ابن عبد الموجود .. ضربه أحد الصيادين بالنار ..
ــ وقتل ..؟
ــ لا .. جرح .. فقط ..
ــ ومن المعتدى ..؟
ــ الفلاح .. طبعا .. إن الصيادين مساكين يسعون لرزقهم .. ويتعرضون فى الليل .. للامواج والبرد .. والرياح الهوج .. ولكن الفلاح لايرحمهم .. عندما يراهم يجرون الشباك على الشاطىء .. يريد أن ينتزع منهم رزقهم بالقوة فى لحظة .. الرزق الذى سعوا له طول الليل .. وهنا يحدث الصراع ..
ــ وهل هم هنا مسلحون دائما ..
ــ أبدا .. ان الفلاحين .. هم الذين علموهم هذا أخيرا ..
ــ إن الذى بيده السلاح .. من السهل عليه أن يطلق النار .. وأن يقتل ..
ــ وهذا ما يحدث فعلا .. مع الأسف يابنى ..
ــ وهل تأسف على القتل يا عم عمار ..؟
ــ بالطبع يا بنى ..
ــ ما أكثر الذين قتلتهم .. فى حياتك ..
ــ أنا .. من الذى حدثك بهذا يا بنى ..
ــ الفلاحون ..
ــ أنهم كاذبون .. وينسجون الحكايات من الأوهام ..
ــ ألم تقتل أحدا .. وأنت رجل الليل ..
ــ أبدا .. يا فتحى افندى .. ابدا .. أيخلق اللّه الإنسان لنقتله . إن هذا لا يمكن أن يحدث .. ان اللّه الذى خلقه وهو الذى يميته ..
ــ وفى الليل .. ألم تضطر إلى اطلاق النار ..
ــ كثيرا ... ولكن للإرهاب فقط .. الذين كنا نسرقهم .. كنا نرهبهم فقط .. كنا نسرق المواشى .. وكنا نسطو على السرايات .. ونسرق الخزن.. كان الأغنياء يودعون كل نقودهم فى بيوتهم .. لم يكونوا يضعونها فى البنوك كما نرى الآن .. ومرة دخلنا على رجل غنى فى حجرة نومه .. وكان مفتاح الخزانة تحت المخدة .. فقبض عليه فى يده واستمات فيه .. وكنت أستطيع أن أقتله .. وان آخذ منه المفتاح .. ولكننى أمرت الرجال بتركه .. وخرجنا دون سرقة .. لأنى أعرف أن القتل جريمة لا تغتفر ..
ــ ولكن فى حياتك الطويلة .. ألم يحدث مرة أن أطلقت النار وقتلت شخصا .. ولو عن غير قصد ..
ــ أبدا .. يافتحى أفندى .. إن البندقية فى يدى .. لأحمى بها نفسى ...
ولكن حدث لى حادث رهيب منذ سنوات .. وسأحدثك عنه .. وما حدثت به إنسانا سواك ..
وتجهم وجهه قليلا ..
وقال وهو يرسل الدخان الأزرق فيتلوى فوق رأسينا فى الريح الساكن ..
ــ حدث فى سنة 1919 .. وكانت الثورة قد انطلقت فى كل مكان مرة واحدة من الاسكندرية إلى أسوان .. كنا نحارب الانجليز عند قرية الوليدية .. وكنا وراء الأحجار .. التى كانت معدة لتدعيم خزان أسيوط وأخذنا نصليهم بالنار كانوا على مبعدة أمتار منا فقط وكانت حالتهم فى غاية السوء .
كنا قد حاصرناهم عند الخزان وفى المدرسة الثانوية .. سبعة أيام كاملة وعلى وشك أن نبيدهم جميعا وقد قطعنا عنهم المدد عن طريق السكة الحديد ومن كل طريق وفعلنا كل ما يفعله القائد المدرب فى الحرب مع أنه لم تكن لنا قيادة على الإطلاق .. ولكنا كنا نحارب بفراسة الرجال الشجعان ..
وكان رفيقى فى الموقع زيدان وكان أحسن رجل فى ضرب النار .. وكان من البراعة فى التصويب بحيث أذهل كل من حولنا ..
وفى أثناء انتصارنا الباهر .. ظهرت طائرة للأعداء فوق رءوسنا كانت قادمة من القاهرة .. ولم نكن نعرف شيئا عن الطائرات .. وأخذت تلقى القنابل فتغير الموقف .. وذعر الفلاحون وطاروا على وجوههم ...
وجريت وأمامى زيدان على الرمال بين النخيل .. ثم غاب عنى ولم أكن أعرف أين ذهب ...
ثم بصرت به وأنا أمشى .. مكوما تحت شجرة .. وكانت القنبلة قد مزقت جسمه ولكن بقيت فيه الروح ..
وحملته وسرت به طويلا فى الظلام .. والدم يلطخ وجهى وثيابى ... وكان الدم قد أعمى عينيه .. ثم وجدته يتعذب .. ووجدت نفسى أكثر عذابا منه ولا أدرى من أين جاءنى الخاطر الرهيب لأتخلص منه .. فقد وجدت ما بقى من جسمه مسخا مشوها .. لا يجعل منه رجلا على الإطلاق .. وقدرت انه سيعيش ساعات .. ربما بقى إلى الصباح ..وربما يموت قبل ذلك .. ولكنه سيتعذب عذابا كبيرا فى أثناء هذه المدة .. عذابا لا يحتمله إنسان .. فلماذا لا أريحه من هذا العذاب .. مادام أنه سيموت حتما .. ولماذا أجعل أهله يرونه على هذه الصورة البشعة .. وألقيته .. على الأرض .. وبعدت عنه ثم استدرت إليه وأطلقت عليه طلقه واحدة وأنا أغلق عينى .. وسرت فى طريقى ..
وبعد أن تركته كنت أتصور أننى استرحت منه ومن العذاب إلى الأبد ... ولكن لما رجعت إلى البيت .. ووضعت رأسى على الحرام نهشت رأسى الافكار المدمرة .. وأدركت أن العذاب بدأ من هذه الساعة ..
وقلت لماذا قتلت زيدان .. وهو شاب فى ريعان شبابه ربما أمده الشباب بالقوة وعاش .. من يدرى .. لماذا أنهيت حياته فى غير الساعة التى ارادها اللّه ... أيخلقه اللّه لنميته نحن ..
وظللت فى عذاب مدمر .. ثلاثة أسابيع كاملة وكان وجهى أسود .. وسحنتى سحنة مجنون .. ولم يعرف أحد من أهلى ... ما جرى .. لم يعرف أحد سرى .. وكنت قلقا ملتاعا .. ووجدت أخيرا ما يشغلنى عن هذا العذاب .. خرجت فى الليل لأسطو ... على العزب .. واستغرقنى هذا العمل ووجدت اسمى يدوى كرجل رهيب .. ولولا أن جدك عبد المنعم أعادنى إلى صوابى .. وجعلنى حارسا على أجرانكم .. لعشت فى الضلال إلى الموت ..
صمت عمار .. وأخذ يدخن .. وبدت خيوط من الظلال الكثيفة تزحف علينا ..
وقد عجبت لما فى النفوس البشرية من أسرار ...
وغلبنى النعاس فنمت ..
* * *
وفى الصباح .. رأيت أن الغلة .. قد سرقت أيضا ورأيت فى عينى عمار أنه يعرف أن الغلة جرحت .. فصمت وتألمت لحاله ... وأنا أرى الرجل يكتم غيظا لا حد له ...
* * *
وسهرت ذات ليلة .. وأنا أتناوم .. لأحاول أن أكتشف السارق .. ثم غلبنى النعاس ... ولما فتحت عينى ..
وجدت .. عمار .. يصوب بندقيته .. ولمحت شيئا فى الظلام يجرى سريعا ودخل الذرة .. فأطلق وراءه عمار طلقة واحدة ...
ولما أسرعنا إلى هناك لنعرف السارق .. ذهلنا لما أصبحنا على قيد خطوة منه .. فقد كان خليفة ابنه .. وكان ملقى على وجهه وبجانبه الزكيبة وقد سالت منها حبات من القمح على الأرض .. وكان قد أصيب فى مقتل ..
وظل عمار فى مكانه مفتوح العينين .. وقد تجسمت ملامحه من هول الموقف ووجوه الفلاحين أشد ذهولا منه ... وما نطق واحد منا بكلمة .. أصبنا جميعا بالخرس الحقيقى ..
وأحسست بشىء ثقيل يجذبنى ويشدنى إلى الأرض .. ولكننى تماسكت ووقفت ساهما .. وقد تغشت عيناى ..
وسقط رأس عمار .. ثم أخذ يحملق فى بنظرة كئيبة ..وقد خرس لسانه.. ولا أدرى هل مرت عليه السنون فى هذه اللحظة .. وتذكر الرجل الذى صرعه هناك بين النخيل .. فقد بدا فى عينيه شعاع الفزع الذى يعتصر الإنسان حين يواحه ما قدر له .. ثم ما لبث الشعاع أن انطفأ .. وعاد يدير فينا عينين مظلمتين ..
وكان ضوء القمر قد بدأ ينتشر خلفنا هناك .. فى شاطىء النهر فلمحت امرأة أعرفها .. لمحت ناعسة على رأسها سرة .. وأمامها دابة تحمل زكيبة كبيرة وغلامان صغيران ... وخلف هذا ثلاث عنزات .. وكانوا قد تركوا النخيل وأخذوا يسرعون فى طريق المعدية ..
ونظرت إليها لحظات ثم رددت بصرى إلى القتيل الراقد هناك ..
وعجبت لتصاريف القدر وما يعده للإنسان ... فى أشد لحظات أمنه ..
وكان عمار لم يغير مكانه .. ولكن كان قد ترك البندقية من يده .. ونظر شاردا إلى هناك فلا أدرى هل رآها وهى تمضى وراء قطيعها ام لا ... ولكنه على اى حال لم يتحرك .. ظل فى مكانه ينظر الينا بعينين تائهتين ..
وكانت البندقية لاتزال ملقاة بجانبه .. وما أمسك بها بعد ذلك ابدا ... فقد كانت هذه هى الطلقة الاخيرة ...

المجداف ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





المجداف
قصة محمود البدوى


ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..

وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .

ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .

ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى " المندرة " قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .

قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .

وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .

وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..

وسألت الملاح :
ـ إلى أين .. ياعم ..؟
ـ رايح .. الخزان
ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..

ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .

ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..

وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..

ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..

ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..

ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..

وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .

وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .

وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..

وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .

وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..

وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..

وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسـه سيـجارة .. وبعد أن أشعلها .. استراح ..

وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .

وقدرت أن حـاجـا جـديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .

وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..

وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
ـ أساعك .. ياعم ..؟
ـ كتر خيرك .. يا ابنى

وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..

وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
ـ خذنى معك .. يا عم ..
ـ إلى أين ذاهب ..؟
ـ ارمينى تحت الريح ..

وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..

وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..

فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .

فقال له الرجل :
ـ ارجع .. يا عجوز .. أحسن لك ..

واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..

ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..

ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..

ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..

ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..

أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..

ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..

وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..

***

ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .

وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟

انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..

وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..

وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القـاه مـن يده .. كأنه يستخف بنـا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..

وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..

ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..

وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..

وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..

ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..

وقالت الفتاة :
ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..

وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..

وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..

وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..

ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..

وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..

وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..

وقلنا له فى نفس واحد :
ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..

وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..

ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..

وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..

وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..

واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..

وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..

ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..

وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..

واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..

وسألته :
ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟

فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..
=================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 1121 فى 971959 وأعيد نشرها بمجموعة " غرفة على السطح "1960 وبمجموعة " قصص من الصعيد " مكتبة مصر 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى
=================================

الغول ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الغول
قصة محمود البدوى


كان عبد المحسن مهران وهو فلاح عجوز من قرية الرحمانية بالصعيد يمتلك قطعة أرض صغيرة على شط النيل لاتزيد مساحتها على النصف فدان ..

وكان من سوء حظه أنها ملاصقة لأرض الشيخ ماهر ومتداخلة فيها .. فما زال هذا يجنبه حتى وضعه فى أضعف تربة ..

فلما زحف النيل على الأرض يأكل منها .. أدعى أن أرض الفلاح الفقير هى المأكولة .. وأرضه لم يمسها سوء .. فصرخ المسكين ولجأ إلى السلطات لترد له قطعته قبل ضم المحصول ..

وعندما تحركت الشكوى من المركز كان النيل يملأ الضفتين والتيار شديدا ..

وركب معاون الادارة ومعه شيخ البلد والدلال والخفير المعدية لمعاينة الأرض .. وكانت على العدوة الأخرى من النيل فجرفهم التيار بعيدا حتى أشرفوا على الغرق وأخيرا استقرت المعدية تحت قرية من القرى .. فى ساعة العصر .. بعد عراك مع الماء استمر سبع ساعات .. وطلب شيخ البلد ركوبتين من القرية التى نزلوا تحتها ليصلوا إلى العزبة ..

وركب المعاون وشيخ البلد .. وسار الدلال والخفير خلفهما بين المزارع وكانت زراعة الأذرة والقطن على الجانبين .. والشمس تشوى الوجوه .. والأرض الحامية تتنفس فى وجوههم ..

وأطلق شيخ البلد الشمسية واكتفى المعاون بأن وضع منديلا تحت الطربوش ..

وكانا قد أبعدا بالدابتين عن النهر .. وسارا فى طريق ضيق بين الحقول .. وكان الطريق موحلا .. وأرجل الدابتين تغوص فى الوحل .. وكان المعاون يذهب لأول مرة إلى هذه المنطقة .. وساءه رداءة المواصلات وسوء الطرق .. وشدة الحرارة رغم الماء المحيط ونزول الشمس عن السمت .. وظهر أثر ذلك على وجهه .. وكان يكره ركوب الحمير .. وزاده هذا غما ..

وكانت زراعة الأذرة عالية .. والكيزان مستوية .. وقد مالت إلى الأرض ..

وكان الحشيش المتطفل .. يغطى التربة .. والقطن قد تفتح نواره .. وظهرت لوزه تنشق عن مثل الحرير الأبيض . ولكن الحرارة وناموس الذرة .. والحشرات الطائرة .. كانت تشوه كل هذا الجمال فى عين المعاون .. وكان شيخ البلد قد اعتاد على مثل هذا وأكثر منه ..

وكان الفلاحون فى الحقول .. يرفعون رؤوسهم عن الأرض لحظات ويحدقون فى الراكبين وبعد أن يشبعوا فضولهم يعودون إلى عملهم ..

***

وانحدرت الدابتان .. فجأة فى طريق نازل .. ولفحهما هواء مرطوب .. وكان النز والطحلب والحشائش الطفيلية تغطى الأرض .. وأسراب من الطيور تحط .. ثم تحلق فى غير نظام .. ثم صعدا على جسر صغير وتكشفت المزارع أمامهما .. فقد أخذ الفلاحون يحصـدون الأذرة .. ويكومون " القناديل " فى جانب من الحقل ..

وبدت جذوع العيدان .. بيضاء تعلوها السمرة .. وكان الجاموس مربوطا والجمال باركة تجتر .. وبعضها يتحرك حذاء الساحل محملا " بأطنان " البوص وكانت الأبقار تدور على النوارج .

وسمع المعاون .. صياح الفلاحين .. وزعاقهم .. فى كل مرحلة كان يقطعها بالدابة ..

وكانت أشجار السنط .. والنبق كثيرة فى الأرض العالية كأنها محطات للعابرين .. أما النخيل فكان قليلا .. فى الأرض المزروعـة وكان يبدو من بعيد وهو يخيم على القرى والعزب .

وكان الراكبان يمشيان على مهل .. ويراعيان الدلال والخفير وراءهما .. وأن الطريق ردىء .. وربما انقلبا فى اللجة أو انزلقا فى الوحل .. ولم يكن المعاون قد اعتاد على ركوب الحمير .. وكان منذ ركب يجتر همومه .. وحده .. فلما لاحظ عليه شيخ البلد التعب سـأله :
ـ تحب أن تستريح قليلا .. يا حضرة المعاون ..؟
ـ أبدا .. هو باقى كتير يا شيخ تبارك ..؟
ـ حوالى نصف ساعة ..
ـ أنا عارف النصف .. هذه ستصبح ساعة ..
ـ لا .. قربنا..

وأراد المعاون أن يتبسط مع الشيخ :
ـ عندك أولاد فى المدارس ..؟
ـ عندى .. اثنان .. واحد فى ابتدائى والثانى فى ثانوى .. والذى فى ابتدائى ماشى .. أما الذى فى ثانوى فتاعبنى ..
ـ ماله ..؟
ـ سقط .. ثلاث مرات فى سنة واحدة ..
ـ هاته .. يساعدك فى الزراعة ..
ـ لاينفع .. سيصبح كالشيخ عبد المعطى تكون وظيفته أن يكتب عرائض وشكاوى فى المأمور .. اتفقت مع عمه على أن يأخذه ويشغله فى المالح !!
ـ هذا أحسن .. والعمل سيستهلك طاقته العصبية ويبعده عن الشر ..
ـ لقد وقع الشر فعلا .. انه الآن يشرب الجوزة .. وينام فى أحضان " الغوازى " ويذهب مع أولاد ماهر إلى المواخير .. لقد أفسدوه .. يسرقون المحصول من أبيهم العجوز البخيل .. ويذهبون إلى المواخير .. وفى كل لحظة يتمنون موت أبيهم .. ولو طال أجله سيخنقونه بأيديهم !!
ـ ولماذا لاتبعده عنهم ..؟
ـ ماذا أفعل .. لقد فعلت كل ما فى وسعى .. هل أترك عملى وأعيش معه فى البندر انها مشكلة ..

***

وركبا سكة تشرف على النهر وكانت المياه تتدفق هادرة .. وخيل إلى المعاون .. أنه الطوفان .

فقد بدت صفحة الماء السوداء .. تملأ ما بين الجبلين الشرقى والغربى وغرق كل ما بينهما من قرى .. وكانت المراكب الذاهبة مع التيار طاوية قلوعها وتمضى سريعة .. أما التى كانت ضد التيار .. فقد نشرت قلوعها وكانت تتحرك بمشقة كأنها تدفع أمامها جبلا من الماء .

وكانت الزراعات التى فى الجانب الغربى قد حصدت واستلقت عيدان الذرة على الأرض .. فمر الهواء الرخى .. من جانب النهر .

ورأى عبد اللطيف أفندى فتاة تمشى بجانب الجسر تحمل جرة وكان يشعر بالعطش الشديد فقال :
ـ تعالى يا شاطرة .. أسقينا ..
وفتحت الفتاة فمها فى خوف عندما وقع بصرها على الطربوش ووقفت مكانها .. ولما حادثها الشيخ تبارك .. عرف سر صمتها وقال :
ـ انها خرساء ..

وكانت المياه .. التى فى الجرة عكرة .. فأشار لها الشيخ تبارك إلى وابور كان " يتك " تحت الطريق .. فذهبت سريعا .. وعادت بالمياه الصافية ..

وشعر عبد اللطيف بالراحة بعد أن شرب وروى ظمأه .. وقال بعد أن ذهبت الفتاة :

ـ انها جميلة جدا .. وكل خرساء فى مثل هذا الجمال النادر .. الطبيعة تعوضهن ..
ـ كان عند الشيخ ماهر .. خرساء أجمل منها .. ثم غرقت .. فى نيل مثل هذا ..
ـ كل الفلاحات يعرفن السباحة ..
ـ يقولون أنه أغرقها ..

وكان الشيخ تبارك يدخن .. والدابتان أرختا رأسيهما وظهر ظل العيدان الطويلة على الأرض .

وكانت الشمس .. تخرج ما فى جوفها من حرارة لتستقبل الظل ..

وسأل عبد اللطيف أفندى يستوضح المسألة :
ـ ولماذا يفعل هذا ..؟
ـ تزوج الشيخ ماهر .. أربع مرات وماتت زوجاته جميعا .. وكان يرث فى كل مرة ..

ولما أراد أن يتزوج للمرة الخامسة وهو فى سن السبعين خشى أولاده أن يقاسمهم وارث جديد فى الميراث واجتمعوا عليه وحاصروه وهددوه بالقتل ان تزوج .. وكان الرجل قوى البأس .. فلم يعبأ بتهديدهم ولكن الفتاة خشيت على نفسها من شر أولاده .. فلم تقبل الزواج منه بعد ما حدث من عراك .. وبحث عن واحدة أخرى فاشترطت عليه أن يسكن معها فى القاهرة .. ولكن أولاده حاصروه وأطلقوا عليه الرصاص فلم يبرح مكانه ..

وكانت عنده فتاة خرساء تملأ له أبريق الوضوء .. تربت فى بيته وهى صغيرة حتى أدركت وغدت أنثى شهية .. وذهبت مرة تحمل الجرة .. إلى البئر .. فلاحظ عليها الفلاحات كبر بطنها .. فذعرن ..

ووضعت واحدة منهن يدها على بطن الفتاة وسألتها بالاشارة :
ـ من الذى فعل هذا يا نبوية ..؟
ـ سى .. سى .. سيدى .. ماهر ..
نطقت الفتاة .. باسم سيدها .. وما نطقت فى حياتها ..
وضحكت النسوة .. ثم وجمن .. وأصابهن الذعر .. وشاع الخبر فى القرية ..

وعندما ارتفع النيل .. وزمجر .. كما تراه .. الآن .. اختفت الفتاة عن الأنظار ولم يرها أحد بعد ذلك أبدا .. ويقولون أن خدم ماهر كمموها ووضعوها .. فى جوال .. أثفلوه .. بالحجارة ..
ـ وأهلها ..؟
ـ ليس للفتاة أهل .. انها يتيمة .. وتربت فى بيت هذا الغنى كجارية من جواريه ..
ـ وأهل القرية ..؟

ـ ليس فى يدهم دليل .. وأنت تعرف الفلاحين .. أخرسهم ظلم القرون .. وكان فى مدرسة القرية الأولية مدرس يدعى الشيخ رجب .. وعلم بخبر الفتاة فصعد المنبر بعد صلاة الجمعة وقال وهو منفعل :

ـ أيها الناس .. ان صلاتكم باطلة وذاهبة إلى الشيطان .. أين ذهبت نبوية ..؟ ان دمها فى أعناقكم إلى يوم القيامة .. وعندئذ ستحشرون فى نار جهنم ..

وكان الفلاحون يرتعشون من الخوف .. ولكن إذا نظروا إلى وجه ماهر وجبروته انكمشوا .. ووصل الخبر إلى ماهر .. وفى يوم السبت التالى .. لم يدخل الشيخ رجب المدرسة وعلم الفلاحون أن مدير التعليم نقله إلى المصحة .!

وقال عبد اللطيف .. مبتسما :
ـ وكيف نخرج .. أرض .. الفلاح المسكين من جوف هذا الرجل إذن .. وماذا يكون مصيرنا ..؟
ـ إننا ننهى مسألة إدارية .. لأجل زراعة هذا العام .. وأمامهما المساحة والقضاء لتفصل فى الأرض ..

وكان قد اقتربا من العزبة وبدا أمامهما جسر طويل .. معرش بقطع الأخشاب .. والبوص .. ومياه النهر تنطحه وكان بيـن المـاء وبينـه مقدار أربعة قراريط .. وسأل المعاون :
ـ من الذى عمل هذا الجسر ..؟
ـ الشيخ ماهر .. انه يحمى زراعة مئات من الأفدنة زرعها .. قطنا .. وخضارا .. ويحمى عزبته كلها ..

وكانا قد اقتربا من البيوت .. وبدت الطيور تأكل الحب .. والحيوانات ترعى الحشائش .. والبط يقفز إلى الماء وكان الوابور معطلا .. ولكن المياه لاتزال فى المجارى .

وشاهد المعاون جديا صغيرا يتوثب .. ونعجة نائمة وناقـة تجتر .. وقد خلـع عنها الهودج .. وبدا أثره فى ظهرها ..

وعندما اقترب الراكبان أقبل نحوهما الفلاحون .. وتناول خفير العزبة الركوبتين وقيدهما فى جانب ..

وكان الخفير يود أن يمشى أمام حضرة المعاون إلى مضيفة شيخ العزبة .. ولكن المعاون رأى أن يبقى بجانب الوابور فى الهواء .. الطلق الذى يطرد الناموس .. وكان الظل قد فرش ..

وجاءوا لهما بدكة فرشوها بحرام .. ووضعوا عليها مخدتين فى الظهر .. وجلس المعاون ينتظر الدلال .. وجاء الدلال وقدم لهم شيخ العزبة طعاما خفيفا لأنهم كانوا فى شدة الجوع .. ثم ذهب الدلال ومعه شيخ البلد .. وشيخ العزبة .. والفلاح المشتكى .. ووكيل ماهر .. إلى موقع الأرض .. لقياسها ..

وجلس المعاون فى مكانه .. ووقف على مبعدة منه بعض الفلاحين .. ثم جلسوا على قرافيصهم فى الظل .. يتحدثون وفهم من كلامهم أن ماهر مريض ولولا مرضه الشديد لجاء وحضر المقاس ومسك بالقصبة ..!

وحمل له الخفير الشاى .. وكوبا من الماء المروق .. وكانت الكباية الصغيرة التى صب فيها الشاى غير نظيفة فتأفف المعاون وصب الشاى على الأرض فى غفلة من الحاضرين ..

وحمل الخفير ما بقى من الشاى إلى الفلاحين .. وسمع المعاون وهو جالس .. امرأة تزعق .. وتسب .. وتشكى لربها .. وعلم أنها زوجة الفلاح صاحب الشكوى وكان المعاون يود أن تنتهى المسألة قبل الغروب .. ليستطيع أن يركب الركوبة إلى البندر .. وفى الصباح يذهب بالسيارة إلى المركز لأنه لن يركب المعدية مرة أخرى فى هذا الطوفان ..

وعادت امرأة عبد المحسن تزعق من جديد ..
ـ ربنا .. المنتقم .. الجبار .. من تلاثين سنة مغلبنا .. ودا عبد الموجود الجهادية وطلع صابر الجسر .. وأخرتها حياخد أرضنا .. مش مكفياه الربعميت فدان ..
ـ يا وليه أسكتى ..
ـ أنا مش خايفه .. الحاكم أهو قاعد .. والخوف موتنا .. مين اللى حط الخرسة فى الشوال .. وخيط عليها .. مين ..
ـ يا وليه اسكتى ..

ونهرها .. خفير الوابور .. وطردها من المكان .. وبدت المرأة فى سوادها .. يابسة كعود الذرة الجاف .. ورمقت المعاون بنظرة فاحصة وهى تنسحب وترد طرحتها على وجهها المعروق ..

وكان المعاون يرد بصره عن البيوت الصغيرة .. إلى النهر الطامى الذى أمامه .. والذى يرد موجه الجسر .. وبدت المراكب أمامه من بعيد كأسراب الطير .. وكان هدير النهر شديدا .. وأخذت اللجة تتحرك كلها وتنطح الجسر .

وتلفت المعاون على زعاق وجرى الفلاحون إلى ناحية المجراة وكانت المياه قد نفدت منها .. وتدفقت على زراعة لم يتم حصدها .. وجرى الفلاحون بالفئوس .. والعلايق .. سريعا .. وسدوا الثغرة .. ولكن المياه اقتربت من البيوت .. وتسربت فى الشقوق ..

ورأى المعاون امرأة تخرج من خلف أكوام الحطب والبوص .. تحمل صغيرا .. وكان وجهه أزرق .. وعلم أن عقربا لدغته .. وطوت المرأة الصغير فى حرام وهى تسأل عن الحلاق ليفصده .. وأمرها الأهالى أن تدخل به الكوخ لأن الهواء يؤذيه .. والغلام بين حى وميت .. وتأثر المعاون من منظر الغلام .. ووجد نفسه بعد قليل ينهض .. ويتجه إلى كوخ الفلاح ..

وقال للأم :
ـ يا ولية .. نظفى الواغش الذى حواليك .. لأنه يأتى بالعقارب ..
ـ حاضر ..
ـ الصبح لازم تشيلى هذا كله ..
ـ حاضر ..
ـ أين أبوه ..؟
ـ فى الغيط .. بيفوس دره ..

ونظر إلى الغلام .. فوجده يرتعش ووجهه أزرق .. ويده ملقاة بجانبه .. كأنها ليست من جسمه .. وكان الهباب فى سقف الكوخ .. والصماد فى الجدار .. والملابس القذرة معلقة فى جريدة منكوتة فى الحائط .. وكان المنفذ الوحيد للقاعة .. هو طاقة صغيرة لاتستطيع أن تطل منها رأس انسان ..

ولاحظت المرأة عين المعاون .. وهى تفحص كل شىء فى القاعة .. وبدت مستسلمة .. وقال وهو يرد بصره إلى الغلام :
ـ لاتعطه شيئا يأكله .. اطلاقا .. وسآخذه معى إلى الاسعاف فى البندر ..
ـ ربنا يوتق حزامك .. مات أخوه الصغير .. من لدغة .. كهذه ..

وكان صوت المرأة باكيا ..
ـ ولكن هذا لن يموت .. اطمئنى ..
ـ ربنا ينصرك ..

وخرج المعاون من الكوخ وهو يشعر بكآبة تضغط على قلبه وتعصره ..

وعادت إلى رأسه صورة زوجته وأولاده وطفله الصغير سمير الذى يحبـو فى البيـت .. واشـتاق لأن يضمه إلى صدره ..

وعندما عاد إلى الدكة .. كان الدلال قد ظهر بالقصبة فى أول الطريق .. والشمس قد سقطت فى النهر .. وسر المعاون لأن المهمة انتهت قبل الليل ..

ورأى الفلاحين يخرجون من المزارع ويسوقون المواشى أمامهم .. ظهرت الأبقار والثيران الضخمة .. والجاموس .. وكان الجميع يتحركون ببطء .. وشاهد جاموسة ضخمة تجرى على الجسر الذى يحجز المياه .. وفلاح يدفعها عنه بالعصا .. ثم انطلقت بأربع بين المزارع ..

واقتـرب الدلال .. وسمـع المـعاون شيخ البلد يقول للخفير :
ـ روح هات .. حصان الشيخ عبد الكريم لحضرة المعاون .. لأنه تعب من الركوبة ..

وسأله المعاون :
ـ خلصتم ..؟
ـ أيوه الحمد لله وريحنا عبد المحسن .. حسبنا عليه قيراط واحد وقع بحر .. والباقى على الشيخ ماهر ..

وجلسوا يشربون الشاى وينتظرون الركائب ..
وأخذ الظلام يزحف ببطء .. وذاب كل شىء فى الغسق ..

***

وسمعوا شيئا .. ضاع فى صوت الموج .. ثم خيم السكون .. وتطلعت أعينهم جميعا إلى الجسر .. ثم علا الصراخ .. وسمعوا هدير الماء المتدفق .. فجروا إلى ناحيته جميعا وحتى المعاون وثب من مكانه .. ووقف يتطلع ..

وكانت المياه قد نفدت من الجسر وساعدت رجل الجاموسة التى جمحت منذ لحظات على فتح ثغرة .. ولم يلاحظها أحد .. وكان النيل يزيد فى كل ساعة .. وضعف السد فانهار جزء منه وتدفقت المياه .. تجرف أمامها كل شىء ..

وسبح التبن .. والغلال .. والطيور .. وأطنان البوص .. وظهر الرجال كالمردة على الجسر يحملون التراب .. وعروق الخشب .. ويحاولون بأجسامهم .. سد الثغرة .. ثم وجدوا أنه لاجدوى من عمل شىء .. وأن الغول يزحف عليهم بكل قوته وكل جبروته ..

فنجوا بأرواحهم .. ثم سمعوا صوت رجل يهدر .. ظهر رجل جديد وكانوا يعرفون صوته جيدا .. فعادوا جميعا إلى العمل .. حتى المتقاعس منهم .. خافوا منه .. وحملوا الطين والتراب .. لسد الماء ..

وكان الشيخ ماهر قد سمع بالخبر .. فطار إلى الجسر رغم أنه يرتعش من الحمى ..

وكان متدثرا وعلى كتفه عباءة .. وقف صامتا وكف عن الصياح .. ولكن مجرد ظهوره حول كل شىء إلى خلية نحل .. وتحول الرجال إلى مردة .. وخلع عباءته واندفع إلى الماء .. كانت حقوله كلها تغرق .. وكان قطنه الأبيض ملطخ بالطين ومواشيه تسبح مع التيار ..

وأدرك الرجال خطورة الحال .. عندما انهار الجزء القوى من السد .. ولكنهم وجدوا ماهر يعمل .. فلم يستطع واحد منهم أن ينسحب .. ظلوا يعملون حتى طواهم الظلام وجرفهم الوحل .. ونسوا ماهر ..

وتفقدوه فلم يجدوه بينهم .. وانسحبوا سريعا .. إلى الأرض العالية .. يسوقون أمامهم مواشيهم ويحملون أطفالهم ونساءهم .. وما يستطيعون حمله من متاعهم ..

ودفع شيخ البلد المعاون إلى سطح الوابور وتجمع الأهالى جميعا .. فى قطعة صغيرة من الأرض لاتصل إليها المياه ..

وفى تلك البقعة السوداء الصغيرة وسط هذا الطوفان .. تجمع الناس كيوم الحشر .. وفى كل ساعة كان يخرج من الماء لاجىء جديد أو تسبح بقرة ..

وصعدوا إليها جميعا .. عدا ماهر ..

وقال الفلاحون .. انه بقى .. وسط الماء يسده بجسمه ويصرخ وقد أصابته لوثة .. وقال بعضهم ان الماء حمله ثم طواه ..

***

وفى ضوء الصباح بدا شراع سفينة يقترب من بناية الوابور وعندما اقتربت السفينة .. طوت الشراع ..

وكان الغلام الملدوغ .. هو أول من نزل فيها وكان قد تصبب عرقا طول الليل وجف عرقه وأحس بالعافية ..

ولكن المعاون رأى أن يحمله معه إلى البندر .. ويأتى له بثوب جديد ..

وعندما تحركت السفينة .. كان الغول قد التهم كل ما حوله من يابسة ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 19/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة قصص " الزلة الأولى " لمحمود البدوى 1959
=================================