الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

الرماد ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الرماد
قصة محمود البدوى


كانت الليلة شديدة الظلمة .. والريح تعوى فى البساتين .. عاصفة بأوراق الاشجار وسعف النخيل .. وكانت بداية رياح الخماسين على منطقة الصعيد .. ولم تخف وطأتها بالليل كما كان متوقعا بل ظلت تهب على قرية المعصرة محملة بالرمال والغبار ولم يكن للفلاحين سبيل إلى مقاومتها غير الاحتماء فى البيوت .. وحبس الماشية .. فى الحظائر .

وكان الغبار الشديد قد حجب الرؤية تماما .. ولف القرية فى مثل الضباب الأشهب فزاد من وقع الظلام وخفت الرجل فى الدروب ولم يعد يسمع إلا نباح الكلاب .. كلما بصرت بشبح يتحرك فى جوف الليل .

وكان هناك رجل يمشى .. فى قلب الزوبعة .. غير حافل بها ويتجه إلى القرية بخطى ثابتة وكان قد عبر النيل من البر الغربى فى زورق صياد رماه عند الغسق تحت القرية وظل الرجل فى مكانه تحت الريح حيث أخرجه الصياد منتظرا الساعة التى قدرها لتحركه .. ولما مالت النجوم انحدر سعيا إلى القرية..

وكان نباح الكلاب يشتد وهو يقترب والظلمة تبدو أكثر جهامة .. ولكن الزوبعة كانت قد خفت نوعا وخف ما تحمله من أتربة وأصبحت الرؤية مستطاعة فى ظل الأضواء الشاحبة المطلة من طاقات البيوت .

ولما أصبح على مبعدة نصف فرسخ من القرية جلس بجانب قنطرة هناك يدور بعينيه فى الظلمة وقد خلع البندقية عن كتفه .. ووضع العباءة الحمراء.. على الأرض بعد أن طواها طيتين .. وأمسك بخزان الرصاص يتفحصه ثم أداره على وسطه ، وأشعل سيجارة ثم أطفأ رمادها .. ونهض واتخذ طريق النخيل .

وكان حسان يدخل قرية المعصرة لأول مرة منذ عشر سنوات .. مع إنها على مبعدة ثلاثة فراسخ من قريته ومتداخلة فى زراعتها ولكنه كان قد أقسم منذ أن قتل والده غيلة وهو راجع من السوق ألا تطأ قدمه أرضها إلا بعد أن يقتص لأبيه ويأخذ بثأره فقد كان حسان أكبر أخوته وكان عليه وحده أن يغسل الدم الذى لوث الأسرة ويمحو العار ..

ولكن القدر كان له بالمرصاد .. فقد مات الرجل الذى قتل والده موتة طبيعية بعد شهر واحد من الحادث ولم يمزق جسمه الرصاص .. كما كان يتمنى .. وترك القاتل غلاما يدعى عباس فى الثانية عشرة من عمره .. وكان حسان يود أن يقتله .. ولكن أم حسان منعته من قتله حتى يشتد ساعد الغلام ويمسك البندقية مثله وهنا يتصارع الندان والا يصبح الثأر مهزلة وأضحوكة الفلاحين .

ولما بلغ عباس مبلغ الرجال ترصد له حسان وعرف كل تحركاته فى الليل والنهار .. وخرج له فى هذه الليلة ليطارده ويرديه .. وكان الغضب يثير دمه .

وتمثل له حادث مقتل والده الذى حدث منذ سنوات طويلة وكأنه قتل منذ ساعة فرجع يحرق الارم .. ويعض على نواجذه غيظا .. وتقدم بين أعراش النخيل .. حتى رأى نورا ينبعث من بيت صغير خارج القرية فاقترب منه .. فلما كان على بابه وجد طفلا صغيرا على العتبة . فطلب منه أن يشرب .. وخرجت أم الطفل بالكوز ووقفت سافرة تتأمل وجه الرجل الغريب وهو يروى ظمأه .

وسألته :
ــ هل أنت قادم من السوق ؟
ــ أجل .. وتأخرت .. كما ترين ..
ــ يبدو لى انك لم تشتر شيئا ..
ــ كنت أود أن أشترى بقرة .. بدل التى نفقت فى « البرسيم » ولكننى وجدت البقر غاليا جدا .. فرأيت أن من الخير لى أن أشترى من سوق السبت..
ــ اذهب .. إلى بيت عبد الصبور .. انه يتاجر فى البهائم .. وهو يستطيع أن يشترى لك بقرة رخيصة .. من منفلوط أو الحواتكة .. أو حتى من ديروط.. أنه يتردد على هذه البلاد كلها ..
ــ فكرت فى هذا على التحقيق .. بعد أن خرجت من السوق
ــ أو تعرف بيته .. ليذهب معك هشام ..
ــ الشكر لك .. اننى أعرف مكانه .. وسأجده الساعة فى مقهى القرية .
ــ أجل انك ستجده فى مقهى رميح .. يشرب الشاى هناك وربما كان يلعب الورق مع الفتيان .
ــ كتر خيرك ..

وحركت المرأة طرحتها ولمست بها شفتيها الرقيقتين .. وهى تتحدث كأنها تغطى أسنانها اللؤلؤية فتزيدها بريقا وصفاء أو تزيد من جمال وجهها .. وكانت ناضرة المحيا وهى سافرة .. ولكن هذه الحركة التقليدية زادتها فتنة .

وكان حسان يرى فيها وجه أمه قبل أن تترمل .. ويذبلها الحزن والاسى .. بعد مصرع والده .. وشكرها وانصرف ..
وظلت المرأة تلاحقه ببصرها حتى بعد أن أبعد ودخل فى الظلمة ..

***

وكان حسان يعرف أن غريمه عباس يجلس فى هذه الساعة فى المقهى الذى فى الدرب الرئيسى والذى يشق القرية نصفين يشرب الشاى .. ويتحدث مع الفلاحين فرأى أن يكمن له فى البستان الذى خلف القهوة حتى يخرج منها إلى الدرب . وهنا يرديه برصاصة مصوبة إلى القلب .

وجلس حسان فى البستان .. متلفعا ومتوثبا لغريمه .. وعيناه ترقبان فى حذر وتيقظ ..

ومرت لحظات رهيبة كان يسمع فيها صفير الريح .. وعواء أشبه بعواء الذئاب .. ثم صرخات مكتومة كأنها خارجة من الجحيم ..

وكان الليل يلف البستان فى شملته السوداء .. ومقابر القرية خلفه تبدو كأنها فاتحة أفواهها لكل نازل جديد .

وكانت أوراق الشجر تتطاير تحته كلما سفعتها الريح .. وأحس برعشة وهو جالس وحده .. وخلفه المقابر .. وجرى فى حسبانه .. ان عباس قد لاتصيبه أول رصاصة .. وهنا يستدير إليه .. وقد يقتله .. وظل هذا الخاطر يعذبه .

ولكنه استفاق منه .. وهو يتأمل سلاحه وكان من أحدث طراز من البنادق وعاوده الاطمئنان ولمح رجلا فى مثل قامة عباس يخرج من المقهى ويمشى فى الدرب .. فحدق فى الظلمة ويده على الزناد ولكنه تبين انه شخص آخر .. فتوارى خلف سياج البستان كما كان ..

ومرت دقائق من الانتظار الرهيب .. كانت قاسية وشديدة الوقع على نفسه .. واشتاق لأن يدخن سيجارة ومع أن العلبة كانت فى جيبه ولكنه خشى أن يدل ضوء السيجارة على مكمنه فظل فى مجلسه قلقا يمر بساعة الانتظار الرهيبة ..

***

وفجأة أحس برائحة النار من حوله فاستدار برأسه فرأى دخانا كثيفا يتصاعد فى الجو ويدخل فى الظلمة .. ثم سمع على أثره صراخا .. ورأى ألسنة اللهب .. تتصاعد من مدخل القرية . والدخان يتجمع ويتلوى فى أعمدة ثم تحمله الريح إلى ناحيته .. والنار تزداد اشتعالا كلما هبت الريح ..

وعندما وثب من مكانه .. وتطلع من مكان عال .. كان الجانب الشرقى من القرية يشتعل كله ..

اشتعلت البيوت والأكواخ الصغيرة والكبيرة .. واشتعل الدريس .. وسعف النخيل واشتعلت حتى صوامع الغلال .

وسحبت البهائم أوتادها وطارت بها وفزعت الكلاب .. وجرت الطيور على وجوهها مذعورة وهى ترفرف بأجنحتها وتصوصو .

وكان الشرر يتطاير .. والدخان يحجب السماء ..

وجرى الرجال والنساء وحتى الأولاد الصغار فى كل اتجاه يحملون القدور والبلاليص والدلاء ليكافحوا بها النيران ..

وتجمعت جموع الناس تحت الوهج المشتعل ..

ووقف حسان بعيدا خلف الجموع والبندقية لا تزال فى يده يرقب اللهب..

ثم رأى شيئا جعله ينتفض .. فقد رأى المرأة التى سقته الماء منذ ساعة واقفة على الجسر .. تصرخ وقد شقت ثوبها .. وكان بيتها قد اشتعلت فيه النار وفى داخل البيت غلامها الصغير الذى رآه حسان .. ولا أحد يستطيع أن يجتاز حلقة النار .. ويدخل وسط اللهب لينقذه ..

وكان صراخ المرأة يفطر الأفئدة ..

ورأى حسان رجلا يندفع فى وسط اللهب .. وخيم السكون ووجفت القلوب .. وحدقت العيون ..

***

وخرج الرجل من قلب النار حاملا الطفل على صدره .. وعرفه حسان .. أنه عباس الذى يطارده .. وبكت الأم من الفرح وتناولت طفلها ..

***

ووقف حسان فى مكانه يتأمل المنظر لحظات ثم وجد نفسه يحرك أكرة البندقية ويخرج منها مشط الرصاص ..

وكانت النيران مازالت تأكل بعض الجريد والدريس .. ولكن ثورتها قد خمدت تماما ..

ولم يعد فى مقدورها أن تأكل شيئا آخر .. كانت قد تحولت ثورتها إلى رماد ..
===============================
نشرت القصة فى صحيفة المساء 17/12/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة ليلة فى الطريق لمحمود البدوى سنة 1962
================================

ليست هناك تعليقات: