الأحد، ٢٣ سبتمبر ٢٠٠٧

الجواد ـ قصة قصيرة

* قصص من الصعيد
مكتبة مصر 2002





الجواد
قصة محمود البدوى







نصر الدين قرية صغيرة هادئة على خط الصعيد ندر ان تقع فيها حوادث .. ولكن لموقعها الجغرافى ولأنها المعبر بين الضفة الشرقية .. والضفة الغربية للنهر .. وضعت فيها نقطة بوليس ..

ويحدث فى قليل من الحالات ان يفلت شقى خطير من يد السلطات ويعبر النهر .. ليركب القطار أو يغيب فى الجبل
فيصبح ضابط النقطة أمام عدو رهيب ..

ومع ان هذه الحوادث قليلة .. ونادرة .. الحدوث .. ولكنها تروع الناس الامنين المسالمين فى المنطقة وتشغلهم عن زراعتهم ومعاشهم ويخلصهم من شرها الفيضان ..

عندما تغمر المياه الحقول والغيطان .. وأوكار هؤلاء الأشقياء .. وتصبح السلسلة الفضية درعا لا ينفد منه إنسان ..

وكان عصام ضابط النقطة .. قد قضى سنوات كثيرة فى هذه المنطقة وعرف طباع أهلها واحبه الفلاحون لأنه يرعى شئونهم ويحرس زراعتهم ومواشيهم .. ويحفظ عليهم كرامتهم .. وكانوا يعاونونه فى القبض على الأشقياء .. وسحق الشر أينما كان .. ويدلونه على السارق .. وقاطع الطريق .. ولذلك عاشت النقطة مثالية ..

ولكن حدث فى يوم من شهر أكتوبر ان سرق تاجر من التجار وهو عائد من السوق فى وضح النهار .. وضرب بالرصاص على الجسر .. ومع ان الفلاحين شاهدوا الجانى ولكن احدا منهم لم يتقدم بالشهادة فى التحقيق .. فحزن الضابط لتغير حالهم ..

وكان بالنقطة قوة من العساكر .. تعتمد فى تنقلاتها ودورياتها على الخيل.. لأن الطريق الزراعية رديئة فى هذه المنطقة ولا تصلح لمرور السيارات.. كما ان الخيل كانت تعبر بهم القنوات والفجوات .. والأرض الموحلة .. وتشق بصدرها المزارع والحقول ..

وكان لعصام جواد عربى أصيل أسمه « سهيل » يحبه ويعتز به وينتقل به دائما فى دورياته فى الليل والنهار ..

وكان الجواد كريما .. وحاسته قوية .. فاذا أحس بالشر .. نشر أذنيه وسدد بصره وصهل ..

وكان عصام يعنى به عناية فائقة ويقدم له العلف بيديه .. ويشرف بنفسه على غسل جسمه بالماء والصابون ..
وتمشيط شعره .. حتى يبدو فى أجمل مظهر ..

***

وفى ليلة من ليالى ديسمبر .. كانت شلبية امرأة خفير الوابور فى العزبة تنفخ النار فى الموقد فشاهدت رجلا يقترب من كوخها .. وكان الرجل بادى التعب ويشكو من الجوع .. فأعطته من طعامها .. فأكل وجلس يصطلى بالنار ويستريح ..

ورأت وجهه فى ضوء النار .. وكان مستطيلا نابت الشعر .. وعيناه قويتان .. وكان قليل الكلام .. ويرتدى جلبابا اسمر وعلى كتفه بندقية قصيرة غطاها بكوفية .. وفى قدميه حذاء طويل كالذى يرتديه الرعاة ..

وبعد أن شرب الشاى .. وتحدث معها قليلا .. انصرف .. وتبعته ببصرها وهو يولى فى الظلام .. بجانب زراعة البرسيم ..

***

وبعد ثلاثة أيام عاد إليها نفس الرجل .. وكان كما رأته أول مرة .. وطلب أن تعطيه بعض الدخان .

فقالت له :
ــ أن عليان .. لا يدخن اطلاقا
ــ اشترى لى علبة سمسون .. وقدم لها قطعة فضية ..
ــ من أين .. بيننا وبين البلد مشى ساعة ..
ــ ألا توجد دكاكين .. فى هذا النخيل ..؟
ــ لا .. والباعة يمرون علينا فى الصباح راكبين الحمير .. ومعهم الدخان .. وكل شىء .. تعال فى الصباح .. انت من هذه البلاد ؟
ــ أننى من النجع ..
ــ نجع رشوان ..؟
ــ لا .. نجع آخر ..

وصمت .. ونظرت إليه طويلا .. ثم قالت :
ــ سأبحث لك عن سجاير فى « زريبة » منصور .

ورأها تذهب .. فلم يثنها عن رغبتها.. وعادت ومعها باكو من الدخان.. فأخذ يلفه .. ورأت أصابعه ناعمة .. وليست خشنة .. كأصابع الفلاحين ..
ــ لست بفلاح ..؟
ــ أجل ... وكيف عرفت ..؟
ــ أصابعك ناعمة .. لم تلمس الفأس ..!
ــ أنا تاجر مواشى ..
ــ وبكم تشترى هذه البقرة ..؟
ــ بأربعين جنيها .. ولأجلك .. بخمسين ..
ــ وتدفع نقدا ..
ــ فى الحال ..

وأراها رزمة من الأوراق المالية .. فابتسمت .. أخذت تحدق فيه أكثر واكثر .. وسألها .. وقد أشعل السيجارة الملفوفة وأحس بالراحة
ــ أين زوجك ..؟
ــ ذهب إلى السوق .. يبيع عجلة ..
ــ إذا عاد بها ساشتريها منكم ..
ــ أو تحسب اننى صدقتك .. انك لا تبيع ولا تشترى ..!
ــ كيف ؟
ــ أجل .. انك عاطل .. ولاعمل لك على الإطلاق .. ومثلك كثير يحملهم التيار .. ومصيرهم .. إلى الكلاب ..

فضحك .. وقال :
ــ أتقولين لى هذا الكلام .. لأنك أعطيتنى قليلا من الدخان ... خذيه ..
ــ لا ليس لهذا .. وإنما اقول لك هذا الكلام .. لأنك شاب .. وطالع على وجه الدنيا .. فلماذا تحمل البندقية .. وتدور بها .. أحمل الفأس وأعمل فى الحقل ..
ــ إنى غريب .. وكنت مريضا .. وأقيم فى هذا البستان إلى حين .. وأرجو أن تحملى لى فطيرة فى الصباح ..

ونظر إليها بطرفه
ــ أو تحسب أنك تخيفنى .. ببندقيتك ونظراتك .. لن أحمل لك شيئا والآن اغرب عن وجهى ..

وظل جالسا .. يضحك ..
ــ إذا رآك زوجى هنا سيقتلك .. لأنك شرير ..
ــ لم أسمع مثل هذا الكلام قط من إنسان .. وانا اقبله منك .. لأنك حلوة.. ولأنك ستحملين لى الفطيرة فى الصباح
ــ أذهب .. وإلا سلطت عليك الكلاب ..

فابتسم وذهب ..

***

وفى الصباح حملت شلبية الفطيرة إلى وكر « علام » .. وظلت تتردد عليه يوميا .. وعشقها وعشقته .. واحتجزها عنده ..
ولما ذهب زوجها ليبحث عنها قتله .

وعرف الناس الخبر ففزعوا وطارت نفوسهم رعبا .. واشتد بطش علام وارهابه . فخشيه الفلاحون .. وتركوه .. يعيث فسادا فى الأرض .. يسرق أموالهم ومحاصيلهم دون ان يجرؤ إنسان على الاقتراب منه ..

ووجد عصام نفسه وحيدا أمام شرير خطير .. تخلى عنه الأهالى جميعا .. ولكن هذا لم يثنه عن عزمه .. وأخذ يطارده بعنف .. وكان علام .. يفلت من الحصار .. ويغيب فى المزارع الكثيفة ..

وكان الفلاحون يتسترون عليه خوفا من بطشه .. وكانت عشيقته شلبية تمده بالمؤن فى وكره ..

وأخذ عصام يحاول بكل الطرق أن يزيل الخوف من نفوس الناس ويجعلهم يجابهون هذا الإرهاب بيد واحدة .. فلم يفلح وذهبت جهوده هباء ..

***

وحدث أن صحب الشيخ علىَََّ وكان من أهالى القرية المعروفين ، الضابط ذات ليلة فى جولة تفتيشية للبحث عن علام .. ورد علام على ذلك فى اليوم التالى أن ذهب إلى بيت الشيخ علىَّ فى الشمس الطالعة .. وأفرغ على بابه الرصاص ..

وشاهد الأهالى الثقوب فى الباب والرصاص الفارغ فى الأرض وعلام ينسحب فى هدوء والبندقية فى يده .

وقد جعل هذا الحادث الناس .. أكثر فزعا .. ورعبا .. وأخذت المديرية تمد « عصام » بالقوة .. والدوريات المستمرة .. للقبض على هذا المجرم ..

وكان عصام .. يعرف عن يقين . انه ليس فى حاجة إلى قوة من العساكر أو مدد لقتل علام .. وأنما فى حاجة إلى قتل الخوف أولا من نفوس الفلاحين .. لأنه أسوا ضروب الاجرام .. ومتى قتل الخوف .. تبدد الظلام .. وسحق علام .. وألف من طرازه .

وكان من قوة النقطة الجاويش بخيت وكان من أبرع العساكر فى ضرب النار .. كان جسورا شديد لقلب وكان عصام يعتمد عليه فى مطاردة علام ..

وجرح هذا الجاويش الجسور بعد معركة رهيبة بين رجال البوليس وبين الشقى .. ونقل إلى المستشفى وتألم عصام ولكنه لم ييأس قط ..

***

وضم الفلاحون المحاصيل .. وغمرت المياه الحقول .. فتنفس الناس الصعداء .. وانقطعت الحوادث وأشاع الأهالى أن علام أخذ عشيقته وذهب بها إلى الجبل .

وانتهى موسم الفيضان .. وخرج الفلاحون إلى الغيطان ..

وظهرت حركة ترقيات وتنقلات بين رجال البوليس .. وجاء دور عصام فى الترقية ورقى ونقل إلى البندر ..

وجاء ضابط اخر ليحل محله ..
وانتظره عصام على المحطة .. ولما خرج الضابط الجديد من القطار رآه عصام بصحبة زوجته .. وكانا شابين فى مقتبل العمر .. ويبدو انهما عروسان فى شهر العسل .

فتألم عصام لأنه لم يكن يقدر أن هذا الضابط الصغير متزوج .. ومتزوج حديثا .. ويجىء بها توا إلى الريف .. قبل العفش .. ليعيش وسط هذا الظلام .. وهذا الإجرام .
واستقبلهما مرحبا .. ولم يشعرهما بما دار فى نفسه من قلق ..

وأنزلهما فى بيته .. ونام هو فى النقطة ..

وفى الصباح أعد لهما الافطار .. ووجد الزوجة سافرة ومرحة .. وأكثر جمالا وفتنة مما كانت عليه فى المحطة ..

وخرج عصام مع منير الضابط الجديد ليعرفه بالناس ، ويطوف به فى القرى والعزب التابعة للنقطة ..

***
وجاء العفش .. وساعدهما عصام .. على إعداد البيت .. ونقل هو عفشه إلى البندر .. ولكنه ظل يتردد على النقطة كل يوم ليطمئن على الأحوال فيها ودخل الاسطبل ليشاهد « سهيل » فصهل الجواد .. عندما رأى صاحبه .. وربت عصام على كتفه وخرج وأبصر عفاف هانم . زوجة زميله خارجة من حديقة المنزل الصغيرة .

وسلم عليها .. وسألته :
ــ كنت عند الحصان ..؟
ــ طبعا .. كان لى نعم الرفيق .
ــ العساكر .. بتقول .. أنه من يوم ما مشيت .. ما بيكلش .. كنت بتعملوا إيه زيادة ..
ــ حاجة بسيطة .. خالص ..
ــ إيه هية ؟
ــ بعامله بحنان ..

وتضرجت وجنتاها ..
ــ من دلوقت .. ياعصام بيه .. حنعامله بحنان ..
ــ سأذكر هذا المعروف دائما وأرجو أن تكونى مسرورة هنا ..
ــ البلد باين عليها .. كويسة وهادية .. والناس طيبين بس ماتسبش منير لوحده .. أو تنساه وانت فى البندر ..
ــ مايكنش عندك أى شاغل ... أنا دائما معه .. ومن اليوم لن تكون هناك متاعب له اطلاقا ..
ــ فى القطر .. الناس كانت يتخوفنى من شقى خطير ..
ــ لن يعيش شيطان على هذه الأرض وانت هنا ..

ونظرت إليه بامتنان .. فاطرق وأحس باقدام زوجها فذهب إليه .. وظلا يتحدثان مدة وبقى عصام فى النقطة إلى قرب الغروب .. ثم خرج .. يودع العساكر جميعا ..
وسلم على « منير » .. وطلب البندقية التى استعارها من الشيخ هشام .. ليعيدها إليه .

وركب جواده « سهيل » وهو يقول لأحد العساكر :
ــ بدرى تركب أول قطر .. وتيجى علشان تأخذ الحصان من البندر ..

واستدار بالجواد .. وخرج .. ورأى « عفاف » فى نافذتها .. وهو يصعد بالجواد الجسر مشرقة وضاحكة .. فحياها بهزة من رأسه .. وانطلق وقبل أن يبلغ القنطرة .. بصر باثنين من العساكر .. خرجا بجوادين ليلحقابه وهما يسرعان فتوثب .. وأرجعهما .. وهو يقول .
ــ مفيش حد يروح معايا .. أبدا ..
ولما بعد انحرف بالجواد وسار فى طريق غير طريق البندر ..

***
وبعد ساعة .. سمع منير وهو جالس فى النقطة صوت الرصاص فنهض ، وسأل أحد العساكر :
ــ فيه إيه يا عبد الصبور ..؟
ــ دا مش عندنا .. يا حضرة الضابط .. دا فى البر الشرقى ..

فعاد إلى مكانه .. ولكنه سمع من جديد الرصاص يدمدم فى جهة قريبة .

وخرج مع العساكر على الخيل .. والرصاص يزار .. ويمزق سكون الليل ..

وعندما اقتربوا .. من مصدر النار .. كانت الطلقات قد خفتت ..

وبصروا أول شىء بالجواد .. وكان جالسا فوق فجوة على مؤخرته .. وناصبا صدره ومقدمه ليحمى به « عصام » .. من النار ..

ومع أن الرصاص اخترق كتفه ولكنه .. ظل ناصبا نصفه الأمامى .. حتى وصلوا إلى المكان ..

وعندما رآهم .. تمدد .. ووضع رأسه على الأرض .. وظل الدم ينزف منه ..

وكان عصام .. لا يزال ممسكا بالبندقية .. ووجهه يعبر عن الجهد الجبار.. الذى بذله .. حتى قضى على المجرم وأرداه ..

كانت اصابة عصام خفيفة .. فقد تلقى الجواد فى صدره كل الرصاص الذى كان يطلقه علام ..

وكانت هناك أمرأة لابسة السواد تسرع فى طريق المعدية .. وأخرى تقف فى نافذة .. بيتها تسأل عن حالة الجريح .. وتتذكر كل الكلمات التى قالها فى الصباح ..

================================
نشرت القصة بمجموعة قصص " الجمال الحزين " لمحمود البدوى فى عام 1962
================================

ليست هناك تعليقات: